إن القمة دائما باردة، فهي تبتعد كثيراً عن الأرض الدافئة، وترقى نحو السحاب، تضع نفسها نداً له في مقاومة الرياح. ولكن سرعان ما يتبدد الحلم وتكتشف أنها حجارة وحيدة فريدة لا تقوى على الحراك، فتصطادها الرياح العاتية وهي جاثية دون مقاومة، ولذا فهي دائما باردة، تشتهي ألفة القاعدة ودفئها وتراكمها وترابطها وشدة حميميتها فتتمنى أنها لم تناطح السحاب يوما ما.

إن البناء الاجتماعي لا يسير في خطوط متوازية، بل تتلاقى الخطوط بشكل حتمي، وهي سنة الله في خلقه. فلا تتم الصحة النفسية التي تترتب عليها صحتها البدنية سوى بالحميمية والمودة والتلاحم والتآزر. وإلا فلم قال صلى الله عليه وسلم: المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص، يشد بعضه بعضا؟

فإذا ما تأملنا التكوين المجتمعي سنجد أنه يتكون بشكل هرمي، وهو ما لم يكن عليه في فجر الإسلام! إذ كان مبنيا بشكل منبسط تتماس خطوطه وتتقاطع، ولكن معطيات الحضارة الحديثة والرؤى المستحدثة من فكر أدخلت الزهو إلى النفوس وحب ارتقاء الطبقات، ومن ثم يتدرج المجتمع. إلا أنه من العجيب أن هذا التدرج يقل كلما ارتفع، فالهرم قاعدته عريضة وقمته دائما مفردة. والجبل يرتكز على آلاف الحجارة إلا أن قمته حجرة واحدة سرعان ما تهوي مع أول هزة عنيفة. فالقاعدة الشعبية هي دائما راسخة، وأناسها سعداء دائما، وكلما أخذت في الارتقاء تصاحبها هزات نفسية عنيفة وعدم استقرار، لأنها تبتعد عن القاعدة الشعبية وتفتقد إلى الأنس والحميمية والدفء الجماعي. ولأن الفرد يعمل على التخلص ممن خلفه حين يرتقي، إما لوجاهة أو خوفا من شيء ما، ثم يبدأ في مد الكلايب لمن هو أرقى فيأنس بجماعة تقل تدريجيا كلما زاد المرء مكانة أو شهرة، فإذا ما وصل إلى قمة الهرم، وجد نفسه بعيدا وحيدا منفردا فلا يقوى على رياح العزلة الشديدة الباردة، ولذلك نقول إن "القمة دائما باردة"، بالرغم من النجاحات التي مهدت لهذا الارتقاء إلا أنه إثر عوامل عديدة يجد نفسه يلاعب طواحين الهواء في وحدة نفسية قاتلة، وإن بدا له أن حوله آخرين، إلا أن الخواء النفسي الذي تركه الانفصال عن القاعدة يشعره دائما بالسأم حتى الموت.

فلننظر إلى بعض هؤلاء ممن حققوا المجد والرفعة وما اجتاح نفوسهم حتى أصيبوا على الأقل بنوبة واحدة من نوبات الاكتئاب الكبرى، وتلقوا علاجا دوائيا لهذا الغرض، ومنهم على سبيل المثال "ونستون تشرشل" و"جورج بوش" و"هاريسون فورد" و"أبراهام لينكون" و"إسحق نيوتن" و"لودفيج فان بيتهوفن" و"نابليون بونابرت" و"فان جوخ" و"إرنست همنغواي" و"ريتشارد نيكسون" و"سعاد حسني" و"مارلين مونرو" و"امينم. ديفيد بيكهام" و"بريتني سبير" كما ذكرت الموسوعات، ولنرَ كيف كانت ارتقاءاتهم وكيف بلغوا القمة وهل قاوموا برودتها؟!

السير ونستون ليونارد سبنسر تشرشل. ولد في محافظة أوكسفوردشاير في إنجلترا. كان رجل دولة إنجليزيا وجنديا ومُؤلفا وخطيبا مفوها. يعتبر أحد أهم الزعماءِ في التاريخ البريطاني والعالمي الحديث، ثم تدرج حتى أصبح رئيس وزاء بريطانيا، وانتصر في الحروب حتى كان أول من أشار بعلامة النصر بأصبعيه وحصل على جائزة نوبل، له العديد من المؤلفات، ولا يتسع المقال لذكر نجاحات هذا الرجل، إلا أنه لم ينج من دائرة الاكتئاب كما أكدت الموسوعات. ولم يكن بعيداً عنه أبراهام لينكون ذلك الصرح الأشم في السياسة وفي القيادة حتى أصبح من أهم رؤساء أميركا على الإطلاق، وهو من أعاد الولايات المنفصلة إلى الحكم المركزي بقوة السلاح، كما كان لينكون صاحب قرار إلغاء الرق في أميركا، وكان محرر العبيد عام 1863، كما أنه كان كاتبا ماهرا صدر له العديد من المؤلفات، وبالرغم من ذلك لم ينج من برود القمة ووحدة الذات، وكذلك الممثل الأميركي الشهير هاريسون فورد حاز على جائزة الأوسكار وكتب العديد من "السيناريوهات" التلفزيونية وتدرج من كونه نجارا حتى اعتلى قمة المجد فلم يشعر بدفء القاعدة عندما اعتلى القمة، ولا نستثني إسحاق نيوتن وهو غني عن سرد مجده العلمي ونظرياته في الفيزياء والطبيعة، حتى غير القوانين الفلكية وانفرد بالقمة فلم يسلم من لفح صقيعها، وهوما عانى منه الموسيقار العالمي بتهوفن حتى قال: (كدت أضع حداً لحياتي إلا أن الفن وحده هو الذي منعني من ذلك)، فمات وهو في سن السابعة والخمسين، ولا نستثني نابليون بونابرت بفتوحاته وتألقه السياسي ووجاهة أقر بها العالم؛ لكن للقمة صقيع. أما فان جوخ فقد أصابته لوثة القمة بما يشبه اللوثة العقلية حتى لجأ إلى العيادات النفسية وتعاطي الأدوية، وهو ذلك الفنان الذي رقدت لوحاته - الأكثر شعبية والأغلى ثمنا في العالم - في أشهر المتاحف العالمية حتى هذه اللحظة، ولم يقاوم الكاتب الأميركي الروائي الشهير "إرنست همنغواي" هذا الصقيع اللافح وهو ينفرد بقمة رفيعة من قمم الأدب والفكر فقضى آخر أيامه بمنزل في كوبا، وكان قد بدأ يعاني من اضطرابات عقلية حتى أطلق الرصاص على رأسه، كما أن مارلين مونرو قد عانت هي أيضا من الإحساس بالوحدة وبرود المحيط وهي من اعتلت قمة الفن العالمي إلا أنها تقول: (لدي إحساس عميق بأنني لست حقيقة تماما، بل زيف مفتعل ومصنوع وكل إنسان يحس في هذا العالم بهذا الإحساس بين وقت وآخر، ولكني أعيش هذا الإحساس طيلة الوقت، بل أظن أحيانا أنني لست إلا نتاجا سينمائيا فنيا أتقنوا صنعه). ولا ننسى سندريلا الشاشة الفنانة سعاد حسني وما أصابها من قلق وتوتر ووحدة، وغيرها كثيرون ممن عانوا الوحدة من القمم الفكرية والثقافية العربية، حتى إن عباس العقاد لم يشعر يوما بالاستقرار الأسري والحياة الهادئة الهانئة، حتى أطلق عليه عدو المرأة وهو ليس كذلك من وجهة نظري، إلا أنه سئم الرفيق والشريك في هذه القمة التي لا تقبل القسمة على اثنين كما في تكوينها الحاد المدبب فتشطر نفسها قبل أن تشطر الآخرين.

يقول العقاد:

إذا ما ارتقيتَ رفيع الذُرىْ.. فإياك والقمة البارده

هنالك لا الشمس دوارة.. ولا الأرضُ ناقصة ٌزائده

فلماذا لا نقف على أرض مستوية؟! قال صلى الله عليه وسلم: "الناس سواسية كأسنان المشط، وإنما يتفاضلون بالعافية, وَالْمَرْءُ كَثِير بِأَخِيهِ, وَلا خَيْرَ فِي صُحْبَةِ مَنْ لا يَرَى لَكَ مِنَ الْحَقِّ مِثْلَ مَا تَرَى لَهُ".

فهو يعلم حال الفرد منا إن انفرد وتعالى وأسقط أوراقه كشجرة الشتاء، فحاله سيكون الشقاء، مهما كان المجد.