لم تكد أشعة الشمس تعلن شروق يوم التاسع من أكتوبر؛ حتى فتح "كارلوس أبودوكاCarlos Apodoca" مرآب سيارته نحو الخارج، وأخرج شوايته وطاولة طعام مستطيلة، وبضعة كراس متفرقة، وخلال دقائق كان قد أعد مأدبة إفطار متنوعة، وبدأ بقلي البيض وشوي قليل من اللحم المقدد، طبعا سبق ذلك كله تعليقه لوحة أمام ساحة منزله تقول: "تعال وشاركني الإفطار مجانا"، وكان هدفه دعوة المشاركين في "مهرجان المناطيد" أن يتناولوا طعام إفطارهم لديه قبل أن يحلقوا بمناطيدهم في سماء مدينته، مرت دقائق سريعة دون أن يحضر أحد ما، حتى تشجع أحد المشاركين ودخل المرآب.
كان منزل "كارلوس" يقع مباشرة أمام متنزه Balloon Fiesta الذي يطير منه ويركن فيه المشاركون مناطيدهم مساء، مما سهل وصولهم إليه، في العام الأول لمأدبته حضر سبعة أشخاص فقط، وفي العام الثاني تجاوز العدد العشرين، وفي العام الثالث لم يعلق اللوحة لأن الجميع صار يعرف المنزل وصاحبه، ولكن هذه المرة قبلت دعوته صاحبة منطاد وابنتها، والتي دعت "كارلوس" على الفور لركوب منطادها، ومشاركتها الرحلة خلال أحد أيام المهرجان! لكن ما قصة مهرجان "المناطيد" هذا؟ وكيف تجمع مهووسو المناطيد في هذه المدينة بالذات ولماذا؟
إنها مجرد فكرة بسيطة، ولكنها خلاقة ومبتكرة، مما جعلها بكل بساطة تضع مدينة "ألباكركي Albuquerque" على خارطة السياحة العالمية، وجعلت منها موقعا جذابا للزيارة والفرجة، بعد أن كادت المدينة أن تموت، وتتحول إلى مدينة أشباح مهجورة، هذه المدينة المتوسطة الحجم، تقع وسط ولاية صحراوية، وتبعد عن الحدود المكسيكية أقل من 400 كيلو متر مربع، وتعتبر الأكبر في ولاية نيومكسكيو الأميركية، لكنها للأسف لا تقف على موارد طبيعية غنية، أو صناعات ثقيلة أو متطورة، لذا تعتمد المدينة على نفسها في تطوير الحركة الاقتصادية، أو على الأقل إبقاء المستوى المعيشي مناسبا لسكانها ذوي التنوع الديموغرافي الكبير، خصوصا وأنها كانت مزدهرة أيام فورة طريق السيارات الشهير "66"، والذي كان يربط شرق أميركا بغربها، ويمر بوسط المدينة.
كانت البداية عام 1972، بمجرد حديث عابر بين السيد "ديك مككي" مدير إذاعة 770 KKOB، والسيد "سيد كتلر" حول إمكانية استخدام منطاده – الوحيد في المدينة - للترويج لمناسبة مرور خمسين عاما على افتتاح الإذاعة، وخلال النقاش المطول تطورت الفكرة، نحو دعوة هواة المناطيد للمشاركة في الاحتفال، وهكذا وبإصرار غريب وخلال ثلاثة أشهر فقط، أي في الثامن من إبريل 1972 كانت سماء "ألباكركي" تحتفل بمرور 13 منطادا في سمائها، بحضور عشرين ألفا من سكان المدينة، ومئات من مهووسي المناطيد من الولايات الجنوبية في أميركا، طبعا وخلال تواجد كل هؤلاء تحرك اقتصاد المدينة بشكل مثير، وبدأت الحياة تعود من جديد، والأجمل من ذلك، أنه لوحظ أن التشكيل الطبيعي للمدينة مناسب جدا لمنافسات المناطيد، وظهرت نظرية أطلق عليها: "أثر صندوق ألباكركي Albuquerque Box Effect" التي تتناول اتجاهات الرياح في المنطقة خلال شهر أكتوبر، والتي تكون باتجاه الجنوب في مناطق التحليق المنخفضة، وتكون باتجاه الشمال في مناطق التحليق المرتفعة، مما يساعد على سهولة عودة المنطاد إلى نقطة البداية دون بذل جهد معاكس لاتجاه تيار الهواء، وبالتالي إمكانية إقامة سباقات التحمل والسرعة بين المناطيد المشاركة بشكل سلس.
وفي العام الثاني، استضافت المدينة المنافسة الدولية للمناطيد، لتعود إلى استضافتها سنويا منذ عام 1975 وحتى اليوم، وتطور المهرجان لتصبح اليوم مدينة "ألباكركي" الأميركية أكبر تجمع دولي للمناطيد على الإطلاق، حتى سجل رقما قياسيا خلال مهرجان عام 2001 بتسجيل 750 منطادا مشاركا في وقت واحد، ولمدة تسعة أيام متواصلة، من البهجة والمتعة، والسماء المكتظة بالمناطيد المختلفة الأشكال والألوان، طبعا تصاحب المهرجان عدة برامج موازية، مثل الألعاب النارية خلال أمسيات المهرجان، ولقاءات تعارف بين المهتمين، ومعارض متنقلة، وعروض فنية للهواة، وغير ذلك من البرامج التي تجذب الجميع بلا استثناء.
لدينا هنا في المملكة تجربة رائعة وناجحة، وقريبة من فكرة مهرجان "المناطيد" هذا، وهو "رالي حائل"، والذي يكاد يتحول إلى حدث سنوي مرتقب، وتجمع سياحي، كل ما يحتاجه الأمر لتحويله إلى حدث سياحي جاذب؛ هو فتح المجال للقطاع الخاص واسعا نحو مشاركة أكبر في تنظيم الحدث، والعمل على تغطيته إعلاميا بشكل احترافي، ودعمه بسلة متنوعة من النشاطات والفعاليات السياحية الموازية، التي تركز على جذب جميع فئات المجتمع، وخصوصا العائلات، فضلا عن إيجاد مسارات ثابتة لرياضة سباق السيارات، تمكن الجمهور من ممارستها في غير أوقات السباق، حينئذ سوف يصبح "رالي حائل" قبلةً لسياح الداخل والخارج، وعلى قمة روزنامة المهتمين بسباقات السيارات والراليات.
لقد استطاعت فكرة "منطاد" عابرة تغيير وجه مدينة، وبعثها إلى الحياة من جديد، وأعتقد جازما أن لدينا أفكارا مماثلة قادرة على فعل الكثير، فهل نحن مستعدون؟