في رمضان كان مسجدنا يستقبل عابري السبيل، كان أكثرهم إخوة لنا من اليمن، يأتون حين تضيق بهم الحياة، فرمضان شهر صوم وكينونة، والعمل فيه يكون أقل، كما أن طبيعة الحياة في القرى لم تكن مشجعة على عمل غير أبنائها فيها، لكنهم عابرون أو طالبو حاجة، يدركون معنا المغرب وفطوره، فيأخذون ما كتب الله لهم إن كانوا طالبي حاجة ثم يمضون في سبيلهم، وقد يمكثون لليلة أو ليلتين في المسجد!

لم تكن طريقة أدائهم للصلاة تلفت انتباهنا، ولا تدعونا إلى الاستنكار، فقد كانوا يؤدونها مسبلين أيديهم، ومع ذلك لم نسألهم لماذا صلاتهم تختلف عن صلاتنا؟!

كانت القرى سعيدة برمضان، فكل زائر بركة وكل يوم خير، وكل ليلة أفضل من سابقتها، تمتد علاقتنا برمضان إلى السنين التي أصبحنا فيها نصوم الشهر كاملاً، فلم تعد الدنيا تسعنا، فقد تملكنا شعور مختلف بأننا كبرنا، وأصبحنا نكمل الصوم.. لم نعد نستيقظ باكرين كما كنا، وأصبح التخفيف علينا في بذل الجهد والعمل أقل من السابق، فلم يعد أهلنا يجهدوننا بالشكل الذي كنا عليه قبل الصوم، كانت الحياة في قريتنا تذهب بنا إلى منافع محدودة لبيوتنا، فلا يتجاوز جهدنا ماشية نحرص على (ترويحها) قبل أذان المغرب، أو أرضا مزروعة نحميها من طير تأكل (عذوقها) وتفسد نتاجها، أو ماشية تأكل (قصبها)، وإن زاد عناؤنا فلن يتجاوز (زفّة) ماء نحملها على ظهر (حمار) من بئر أو عين القرية الوحيدة.. تلك كانت حياتنا، وذاك كان عناؤنا في رمضان وقد أصبحنا من صوامه، وعلينا أن نأخذ قسطنا فيه من الراحة!

ياله من شهر، ويالها من ذكريات تحنّ لها النفوس، فتستعيد بعض ما بقي في ذاكرة تحن ّولا تحنّ، تحن إلى أيام كانت البيوت تعرف بعضها وتأنس بهم، ولا تحن إلى مصاعب الحياة التي تنقطع معها كل السبل المفضية إلى الحياة.

تلك كانت قريتنا، وتلك كانت بعض حياتنا فيها، فلا نحن أدركنا بؤسها ولا هي أدركت سعادتنا، لكننا اتحدنا معها، فأحالت شقاءنا ذاكرة ومطالبنا مجرد أمان!

 


علي فايع - قاص وناقد