لن أتحدث عن التطورات السياسية التي تجري هنا وهناك، والنيران المستعرة في شرقنا الأتعس، فقد مللتها ولم يعد أمام "صاحبكم" هذه الأيام من خيارات سوى التواري خلف ظله، محتميا من منظومة الحزن والعبثية والخراب الذي يخّيم على شتى بلدان هذه المنطقة المنكوبة، فالملايين من البسطاء أمثالي الذين لا يملكون ما يراهنون عليه سوى أنفسهم وكدّهم وجدهم، ليس بوسعهم الاستمتاع بـ"رفاهية الاكتئاب".
فالمكتئب لا بد أن يتوافر لديه الحد الأدنى من سبل الحياة، حتى يدخل عباءة الاكتئاب ويرقد في سلام، لكن هؤلاء الذين تتعلق برقابهم مسؤوليات جسام مثل الأسرة والأبناء والزملاء و"المؤلفة قلوبهم"، هؤلاء لا يمكنهم أن يُلقوا عن كاهلهم كل هذه الأعباء بقرار اكتئاب، وإلا تحولوا من مرضى يستحقون الشفقة والعطف، إلى "مجرمين" تنبغي محاكمتهم بتهمة الأنانية، وتورم الذات، وعدم الامتثال لفضيلة التواضع.
الاكتئاب رفاهية لهؤلاء المسؤولين عن مقاومة "العدمية" و"العبثية" التي باتت سمة عامة في شتى أوساط المصريين خاصة، والعرب عموما، يمكن أن تلمس ذلك في أي مناقشة من أي نوع، سواء كانت في السياسة أو حتى الرياضة أو غيرها.. لا فرق، ستسمع "تراشقا منفلتا" يضعك على حافة اليقين بأن نهاية العالم باتت قاب قوسين أو أدنى.. وأن أفضل شيء ألا تفعل شيئا، ولا تنطق بكلمة.. ولا تراودك أي فكرة.
ورغم كل هذا فإن صاحبكم المسكون بـ"التفاؤل الإجباري" له أحيانا تجليات كأنها الطفولة، ولديه أيضا وهم هائل بحجم الكون اسمه "عشق الحياة"، التي كلما سحقته قال لها تبّاً لكِ.. لست سوى مساحة متخمة بالخديعة.. ومع ذلك أحبك يا "بنت الأيه".. هل هذه "الماسوشية" في إحدى صورها؟
منذ قرن ونيف.. لا تفارق مخيلة "صاحبكم" صورة لامرأة خرافية.. لم تكن أبدا.. وأحسبها لن تكون، ومع ذلك فهي ضاربة في الحضور والغياب، إلى حد الاستعصاء، طارت ذات أمسية كالحمامة البرية، لكن لا تزال رائحتها عالقة في كيانه، وطعم ابتسامتها يسكن مخيلته.. إنها امرأة تبدو مثل "مدينة فاضلة" خرافية.. بناها آخر حكام الكون العادلين.. وهي أنثى تختزل كل معاني الإنسانية في مجرد نظرة.
"أجمل النساء هن المستعصيات".. هذه الفكرة طالما راودت "صاحبكم" عن نفسه خاصة في "نوبات الفلسفة" التي تدهمه أحيانا كنوبات البرد والصداع.. يحدث هذا عادة بشكل مكثف ومتكرر في ليالي الشتاء الباردة.
وكالعادة أيضا كان وحيدا إلا من هواجسه، وحينها باغتته رغبة عارمة في البكاء من دون أن يدري سببا لذلك، فراح يصرخ في كل الصور العالقة على الجدران.. تلك الصورة التي لا يستطيع الاقتراب منها أو الابتعاد عنها، وأقصى ما بوسعه أن يفعله بها هو أن يمسح عنها ما علق عليها من أكوام الغبار.
قال لها ذات شتاء كئيب: أحبك جدا، ولكن.. فردت: أحبك جدا من دون لكن هذه.
قال لها: أنا رجل مهزوم مسبقا، أحمل أكواما من الخيبات على كاهلي.. فردت: أجمل الهزائم هي التي تعرفها وتعترف بها وتتصالح معها.
لكن الهزائم كثيرة.. والنساء قاسيات حين يقررن ذلك، هكذا راح يهمس لنفسه قبل أن يمضغ لقمة كأنه يتعذب بالتهامها، ولا يتلذذ بالطعام كما تفعل بقية الكائنات الحيّة، والمثير للسخرية أنه مضى في ابتلاع الكسرة الجافة بإصرار وإلحاح مزعج كأنه "سعال خانق".
في المدينة المتوحشة يتجول "صاحبكم" دون هدف حتى الفجر، يسكنه شعور العاشق المنكسر، أو كنافذة بيت قديم أهمل منذ قرون، يضرب رأسه التي يصعب التعايش مع أفكارها في أعمدة الإنارة، وحتى أرصفة الطريق، ولا يعنيه أن يراه أحد.. فما عساهم أن يقولوا.. مجنون؟
وكمخرج "عملي" قرر "صاحبكم" أن ينسى وجوه كل من أحبهم ومن كرههم، أن يتغافل عن ملامح البيوت والشوارع، وان يتجاهل كونه الوريث الشرعي لكل هذا الخراب.. واختصار قرر أن يتجاوز حقيقة قدرية أنه أحد الكائنات المطعونة بالظهر والصدر والسمع والبصر، وبكل الأحلام المبتسرة، شأن جميع البؤساء الذين كُتب عليهم الركض حتى خطّ النهاية الوهمي للكون، والرمق الأخير.
قرر أن يهجر المدن الآيلة للسقوط، ويرتدي معطفا يقيه اللعنات والشتائم والذكريات، وأن يعتلي حصانه الخشبي ليخوض أكبر معركة وهمية في التاريخ، بينما يسكنه إيمان راسخ بأن المقاتل المثالي في هذا الزمان هو الذي يعلن هزيمته طواعية قبل أن يعلنها العدو، وهو الذي يدرك خسارته قبل التفكير بالمعركة، وقبل أن يحاول لمس سيفه المغروز في لحمه، ودمه، وضلوعه ودموعه.
وعلى حواف المدينة المتوحشة يعيش "صاحبكم" الوجود المؤقت.. والهوية المؤقتة، في مدينة تبتلعه صباحا، ومع حلول المساء تبصقه، ليلملم أشياءه المبعثرة هنا وهناك، ويأمر نفسه: "كوني على ما يرام"، فتكون.. "كوني متفائلة"، فتسكن بساتين الجنون، ثم يدخل في ذاته.. ويرتديها بعناية، يحرص ألا يدع أدنى مساحة لأي اختراق محتمل ثم يتخذ سمت الحكماء كمن يُطمئن نفسه قائلا: ثمة وقت كاف لسيجارة أخرى، ثمة فرصة للأمل، ألم أقل من البداية أن الاكتئاب رفاهية لا يحقّ لأمثال "صاحبكم" الاستمتاع بها.