معركة كسر العظم مستمرة في مصر، بين المعارضة ممثلة في جميع القوى المدنية، والحكومة ممثلة في رئيس الجمهورية الدكتور محمد مرسي والإخوان المسلمين وبقية قوى الإسلام السياسي. والأوضاع السياسية في هذا البلد العزيز مرشحة لمزيد من الانهيارات، ما لم يتوصل العقلاء إلى حلول وسطية، تنهي الأزمة.
في قراءتنا التحليلية للأزمة الدستورية، التي بدأنا بها في الحديث السابق، أشرنا إلى أن القوى الرئيسية، غداة انطلاق الحركة الاحتجاجية في يناير عام 2011، تتمثل في ثلاث هي الحزب الوطني الذي يقود السلطة، والجيش، وتنظيم الإخوان المسلمين. وقد تعرضنا بشيء من التفصيل لهذه القوى. لكن ذلك، لا يعني، على أية حال، غياب المشهد المصري من قوى أخرى، كما أنه لا يعني إمكانية بروز قوى سياسية جديدة حية، تكون هي ذاتها، نتاج التحول السياسي الجديد الذي شهدته أرض الكنانة بعد 25 يناير 2011.
فالقوى الشبابية التي تصدرت الحراك في ميدان التحرير بالقاهرة، والميادين الأخرى في عموم مصر، وعلى رأسها مجموعة خالد سعيد وحركة 6 أبريل، وانخرطت معها حركة كفاية وأحزاب قومية ويسارية وليبرالية، قد نمت خلال العامين المنصرمين، كما ونوعيا في ظل مناخات مختلفة.
لم يكن ممكنا، في ظل التوازن السياسي القائم، أن تخرج السلطة سوى من رحم القوى السياسية الرئيسية الثلاث، التي أشرنا لها. ولأن الجيش في المنظور الوطني المصري، هو مؤسسة مستقلة، ارتبطت باستمرار بالدفاع عن الوطن وحمايته من المخاطر الخارجية، فقد رأى فيه المتجمعون في الميادين القوة الوحيدة، المحايدة، القادرة على إنقاذ البلد من الفوضى والفراغ السياسي.
بدوره انحاز الجيش بعد ثلاثة أيام فقط من الاحتجاجات، وتحديدا في 28 يناير إلى الحركة الشعبية، وسد الفراغ الناتج عن انسحاب القوى الأمنية من حماية الميادين، ومؤسسات الدولة. استمد الجيش قوة حضوره من الدور الذي لعبه تاريخيا، ومن التفاف الثوار والشعب من حوله. وأوضح أن تسلمه للسلطة، هو مرحلة انتقالية يتم بعدها العبور للدولة المدنية، حيث تجرى انتخابات لكافة المؤسسات: الرئاسة ومجلس الشعب ومجلس الشورى. وهكذا كان.
الانتخابات البرلمانية، وانتخابات مجلس الشورى أكدتا هيمنة الإخوان المسلمين والحركة السلفية على الشارع، والتحالفات التي جرت أثناء الانتخابات، جرت على قاعدة الاعتراف بقوة الإخوان والحصول على النزر اليسير من المقاعد، في ظل برلمان يشكل الإخوان الثقل الرئيس فيه.
وحين جرت الانتخابات الرئاسية الأولى، أكدت أيضا سلامة التقسيم الذي أشرنا له. فالفائز الأول، هو مرشح الإخوان الدكتور محمد مرسي، ويليه في حصد الأصوات الدكتور أحمد شفيق رئيس الوزراء السابق، وأحد أقطاب نظام الرئيس حسني مبارك، ويليهما السيد حمدين صباحي ممثل الكثير من القوى المدنية.
صحيح أن القوى المدنية، ستكون أوفر حظا في الوصول لكرسي الرئاسة، لو توافقت على مرشح واحد، فذهبت على سبيل المثال، أصوات السيد عمرو موسى والدكتور محمد البرادعي وآخرين إلى المرشح حمدين، لكن هذه القوى، كما أشرنا بقيت مشتتة، ولم تدرك أهمية التنسيق والوحدة بينها إلا بعد انفضاض المحفل.
لم يكن متوقعا أن تسير الأمور، بعد فوز الدكتور مرسي، بما تشتهيه السفن. فالصراع التاريخي بين حركة الإخوان، والقوى المدنية من جهة والمؤسسات الرسمية القائمة، وعلى رأسها المحكمة الدستورية لم يكن لها أن تنتهي بين ليلة وضحاها. وحالة التربص بين هذه القوى ظلت على ما هي عليه قبل الحركة الاحتجاجية. والإخوان تصرفوا، كما لو كان حصدهم لمقاعد البرلمان والشورى، والوصول لسدة الرئاسة، هو الفرصة الأخيرة. ولذلك عملوا على تثبيت أقدامهم، من خلال نفيهم للقوى الأخرى، وممارسة سياسة إقصاء ذكرت الجميع بممارسات الأنظمة الشمولية، دون وعي منهم بأن الظروف قد تغيرت، وأن ما كان ممكنا تطبيقه في السابق لم يعد ممكنا الآن.
في ظل غياب دستور دائم أو مؤقت للبلاد، وأمام اتخاذ المحكمة الدستورية، عدة قرارات اعتبرت تحديا للإخوان المسلمين، وفي المقدمة منها قرارها التاريخي ببطلان عملية انتخاب مجلس الشعب، ورفضها الانصياع لقرار الرئيس بعزل النائب العام، تصرف الرئيس كشيخ قبيلة، مدافعا عن الحركة السياسية التي ينتمي إليها، وبدا أمام الكثير من المصريين كعضو بارز في حركة الإخوان المسلمين، وليس رئيسا لجمهورية مصر العربية. وكانت وسيلته لفرض قراراته هي إصدار إعلانات دستورية تحصنه أمام المحكمة الدستورية، ويعزز بها قراراته، لحين الاقتراع على الدستور الذي صاغته الجمعية التأسيسية التي يمثل الإخوان المسلمون، قطب الرحى فيها.
لقد رفضت المحكمة الدستورية العليا، عزل الرئيس للنائب العام، وذلك حق تمتلكه بموجب استقلالية القضاء في مصر. لكن هذا الرفض نبه الرئيس إلى أن المحكمة يمكن أن تقف سدا مانعا دون اتخاذه قرارات أخرى. وفي معرض تبرير الرئيس لتحصينه لقراراته، يشير إلى أن المحكمة هي من نتاج عهد الرئيس حسني مبارك، الذي قامت الثورة بهدف تنحيته، وتغيير إرثه. ومن وجهة نظره، فإن أي ثورة، ينبغي أن تمر بمرحلة استثنائية، تتخلص فيها من تركة الماضي. وأن العهد السابق، لا يمثله الرئيس وحده، وعملية تنحي الرئيس مبارك عن الحكم هي خطوة أولى على طريق طويل، يقتضي تغيير بنية النظام القديم بالكامل. ويتهم هؤلاء من يعترضون على خطوات الرئيس بالانتماء للنظام القديم ويصفونهم بالفلول.
تعترض المعارضة على البيان الدستوري، وتطرح جملة من الأسباب لتبرير اعتراضها عليه. فالرئيس دشن بموجب تحصينه لقراراته، عودة الديكتاتورية والاستئثار بالسلطة. بل ويذهب المعارضون إلى مدى أبعد من ذلك، فيشيرون إلى أن هدف الإعلان هو تهميش استقلال القضاء، وإعادة هيكلته، بما يتسق مع أخونة المجتمع المصري.
إن الإعلان الدستوري، الذي أصدره الرئيس، من وجهة نظر قانونيين مصريين كبار، يرقى إلى التفرد بإصدار دستور موقت. وليس منطقيا التعلل بالقول، إن الثورة لم تستكمل مهماتها بعد. فالرئيس مرسي، لا يستمد موقعه الرئاسي من مشروعية ثورية، بل من خلال صناديق الاقتراع. وقد أدى اليمين الدستوري، إثر فوزه، أمام محكمة دستورية، وعمل لاحقا على التخلص من شخوصها.
أخيرا ألغى الرئيس قرار التحصين، لكنه أدى دوره المطلوب، بما يستدعي مناقشة أسباب الإلغاء، ومحاور الحديث عما يجري في مصر كثيرة، سنحاول الإمساك ببعض خيوطها في الحديث القادم بإذن الله.