منذ سنوات طويلة وأنا أنتقد وبشدة بعض السياسات الصناعية في المملكة التي تركز على المشاريع الصناعية التي تنتج مواد خام (لقيم) لصناعات دولية يعاد تصدير منتجاتها لأسواقنا، وكأن دورنا هو خدمة الصناعات العالمية فقط. والحقيقة أن الظروف قد تكون غير مواتية أو ملائمة لبعض الأفكار التي كانت تطرح في الماضي، وكان الآخرون يصفون أفكارنا بأنها أحلام يصعب تحقيقها.
وبعد مرور ثلاثين عاماً من بعض الطروحات الصناعية أود اليوم أن أسجل تقديري واعتزازي للمؤسسة العامة لتحلية المياه ولوزارة الصناعة ومدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية وجامعة الملك سعود وبعض الوزارات الداعمة الأخرى الذين استطاعوا أن يخرجوا لنا ولمستقبل صناعة تحلية المياه في المملكة مشروعات من أهم المشاريع الصناعية للحياة في المملكة العربية السعودية، التي تحصل على 40% من حاجتها المائية من محطات تحلية منتشرة على البحر الأحمر والخليج العربي، فالمملكة هي أكبر دولة في العالم تقوم بتحلية المياه، حيث تنتج محطات التحلية أكثر من 5 ملايين متر مكعب في اليوم وهو ما يثمل 18% من الإنتاج العالمي، إلا أنها وللأسف محطات معظمها قديمة انتهى عمرها الافتراضي، وتقوم المؤسسة بترميمها لضمان استمرارها. وكنت أتساءل دائماً كيف لدولة مثل دولتنا تعتمد على محطات تحلية مياه للحصول على الماء النقي بتقنية أجنبية ولا نملك سوى حق الانتفاع من صناعة هذه التقنية من خلال المصانع المصدرة لنا، وتحتفظ الدول المصنعة بالتقنية كسر من أسرار هذه الصناعة؟ حتى كشفت لنا المؤسسة العامة لتحلية المياه المالحة مؤخراً عن تفاصيل أكبر وأهم مشروع صناعي من وجهة نظري في المملكة، وهو مشروع تصنيع محطات التحلية، وتملك التقنية الخاصة بهذا المشروع والحق في استخدام هذه التقنية في إقامة المشاريع الصناعية المستقبلية لتحلية المياه والذي يعتبر هو الأكبر والأهم في مجال التعاون الاقتصادي مع عملاق من عمالقة الصناعة في قارة آسيا، (كوريا الجنوبية) الشريك القديم الذي ساهم في التنمية العمرانية والخدمية في المملكة في بداية الثمانينات ثم تحول إلى أحد أكبر المصدرين للأسواق السعودية سواء في مجال تصدير السيارات أو الأجهزة الكهربائية أو أجهزة الاتصالات النقالة. وهو اليوم يفاجئنا بالمشروع العملاق بين شركة (دوسان الكورية) الرائدة في مجال الصناعة، وعلى وجه الخصوص صناعة مصانع تحلية المياه ذات التقنية العالية والمتميزة، والمؤسسة العامة للتحلية، في اتفاقية تضمن للمؤسسة حق الحصول على تقنية التصنيع وللشركة الكورية الحق في الحصول على قيمة التقنية عن طريق شراء المؤسسة العامة للمياه المياه المحلاة من أول مصنع مشترك يقام وينتج مليون ونصف جالون يومياً ولمدة ثلاث سنوات، وهو المصنع الأكبر إنتاجاً عالمياً بسعر 5.6 ريالات للمتر المكعب، وهو سعر أقل تكلفة من شراء المؤسسة للمتر المكعب من بوارج تحلية المياه التي تلجأ لها المؤسسة أحياناً وبسعر 8.5 ريالات للمتر المكعب. نعم أنا فخور اليوم بهذه الشراكة التي تعطينا الحق في تملك التقنية الخاصة بصناعة تمثل الشريان الرئيسي للحياة لسكان المملكة.
أما الخبر الثاني والمهم لمستقبل سكان المملكة أو سكان أي دولة تعيش على رحمة محطات تحلية المياه في توفير كامل احتياجاتها من المياه هو إعلان المؤسسة العامة لتحلية المياه المالحة بأن التوجه الحالي والمستقبلي للمؤسسة في مشروعاتها هو استخدام الطاقة الشمسية بدلاً عن استخدام الوقود والغاز الذي يعتبر مكلفاً أولاً ومنقرضاً ثانياً في يوم من الأيام مهما طالت السنين، وهو قلق كبير كان ينتابني دائماً على مستقبل حياة الأجيال القادمة بعد نفاد البترول والغاز، وكم كنت سعيداً بإعلان المؤسسة العامة لتحلية المياه أن التجارب النهائية للدراسات أثبتت جدوى وفعالية استخدام الطاقة البديلة في محطات تحلية المياه بعد تجريبها الأولي في محطة الخفجي التي تغطي احتياجات الخفجي من مياه الشرب، والتي أثبتت نجاحها وفعاليتها واستطاعت إنتاج حوالي 30 ألف متر مكعب يومياً من خلال بناء محطة لإنتاج الطاقة الشمسية بطاقة 10 ميجاوات وأغشية التناضح العكسي وذلك في مدة ثلاث سنوات. وقد بدأ التنفيذ الفعلي في هذه المحطة. أما المرحلة الثانية كما أفادت المؤسسة بأنها تستهدف بناء محطة لتحلية المياه بالطاقة الشمسية بطاقة إنتاجية تبلغ 300 ألف متر مكعب يومياً. والمرحلة الثالثة ستكون بناء عدة محطات بالطاقة الشمسية، حيث أكد مسؤول في المؤسسة أن لديها 6 محطات تحلية صغيرة كصناعة محلية. وكما أشارت المؤسسة أن هذا النجاح الذي تحقق كان بفضل الشراكة التقنية مع شركة (اي بي أم) الشريك التقني لتطوير تقنيات النانو المتقدمة في مجال تقنيات تحلية المياه والطاقة الشمسية التي تسهم في تخفيض التكلفة، ولم يبق لمشاريع التحلية في المملكة سوى بناء مخازن استراتيجية لحفظ المياه في كل مدينة من مدن المملكة، تستوعب هذه المخازن تغذية المدينة بالمياه لمدة 10 أيام على الأقل، وذلك لمواجهة حالة الطوارئ، وقد تكون مشاريع خزن المياه الاستراتيجي أهم من مشاريع الخزن الاستراتيجي للبترول.
ولم يبق لي سوى أن أتمنى على المؤسسة العامة لتحلية المياه أن تقود فكرة إنشاء شركة مساهمة سعودية متخصصة في تصنيع محطات التحلية وصيانتها وتشغيلها. هذه المشاريع التي تحتاجها بلادنا لتغطية احتياج هام لسكان المملكة وبتقنية سعودية أو مشتركة، وكفانا استيراد صناعات لا نعرف تقنياتها ونظل أسرى لناقليها أو مصنعيها، فمتى سنتحول من دول مستوردة لصناعة ذات تقنية سرية إلى دولة مصدرة للتقنية؟ ولن يكون هذا إلا بدعم البحث العلمي.