هذه المقالات، وهذا المقال ختامها، تسعى للتفكير في قضية أساسية واحدة تشغل المعلم أو المعلمة في التعليم التقليدي. هذه المشكلة هي أن العلاقات التي يعدّها وينظّمها التعليم التقليدي للعاملين فيه هي علاقات تحجبهم عن بعضهم وتضعهم أمام سؤال أخلاقي عن طبيعة هذه العلاقة. هذه المقالات مكتوبة للتفكير مع المعلمة والمعلم الذين يرون أن العلاقة التي تجمعهم مع طلابهم هي علاقة أقرب للاستبداد منها للحرية. قلنا إن هذه العلاقة يمكن أن توصف بعلاقة (الذات- الشيء) أو (الشيء- الشيء) وهي العلاقة التي يفقد أحد أطرافها أو كلاهما وجوده الإنساني الكامل ككائن حر عاقل. يمكن إيجاز الفكرة المحورية فيما يمكن أن يكون مخرجا من هذه العلاقة في مفردة "الانفتاح" قلنا إن هذا الانفتاح يمكن أن يبدأ بإدخال مناخ جديد للعلاقة بين المعلمة وطالباتها من خلال الانفتاح على الآداب الإنسانية ومنتجات الفكر البشري التي تقدم مثالا ونموذجا لعلاقات أخرى غير تلك التي يقدمها التعليم التقليدي على أنها العلاقات الطبيعية. غالبا أن هذه المصادر لن تتوافر فيزيائيا في المدرسة ولكن اليوم نعيش في عصر أصبح من السهل جدا الوصول لها.
هذه النسائم القادمة من الخارج قادرة على تقديم بدائل وإمكانات أمل للطلاب والمعلمين للخروج من الحلقة التقليدية التي تورّطوا فيها. إذا كان كل شيء في التعليم التقليدي يقول إنه ليس بالإمكان أفضل مما كان، فإن الانفتاح على المنتج الإنساني يقول وبوضح إن بالإمكان أفضل مما كان. التمثل الحقيقي والجوهري للتغيير في علاقة المعلم والمعلمة مع طلابهم وطالباتهم يتجلّى بشكل رئيس في العلاقة الحوارية التي ينخرطون فيها لتشمل علاقتهم الإنسانية والتعليمية على السّواء. العلاقة الحوارية هنا هي إمكانية حقيقية لتحقق علاقة (الذات-الآخر) كما عند بوبر. أي العلاقة التي تجمع طرفين في حضور إنساني مفتوح لكليهما ليحضر إنسانيا بالكامل. أو بعبارة أخرى العلاقة التي يحضر فيها كل طرف كإنسان حر عاقل فاعل ومشارك.
الحوار هنا ليس فقط مساحة للتعرف على الآخر بل هو أيضا تعرّف على الذات؛ ذلك أن الإنسان كائن اجتماعي ولا يوجد إنسان عاش في معزل عن الآخرين. حضور الإنسان مع الآخرين هو بشكل أو بآخر رافد معرفته لذاته وكما أنه فيزيائيا يرى ذاته في أعين الآخرين فإنه معنويا وفكريا نتيجة لهذا التفاعل مع الآخرين. باولو فريري مثلا في تحليله لشخصية المستبد وجد أن المستبد ذاته من أكبر ضحايا الاستبداد باعتبار أن علاقة الاستبداد مع الآخرين تحيل الذات إلى بعد واحد مؤذ وهو بعد "المستبد". مع الوقت لا يعرف المستبد من ذاته إلا أنه مستبد ويفقد التنوع الطبيعي للشخصية الإنسانية. كذلك المعلم والمعلمة المتورطون في علاقة التلقين مع طلابهم وطالباتهم لا يعرفون من ذواتهم إلا هذا السلوك ويخسرون الرافد الطبيعي الذي يفترض أن يعود عليهم من علاقتهم مع طالباتهم وطلابهم. لن يتوقع المعلم المستبد أو التقليدي أن يعبّر له طلابه عن مشاعرهم الحقيقية وهم في علاقة التلقين والخوف. المعلمة التقليدية هنا وحيدة ومعزولة حتى ولو أحاط بها مئات الطالبات.
في المقابل الحوار هو إعادة وصل للعلاقة الطبيعية مع الآخرين باعتبار أنه يحمي الطبيعة الصحيّة للفعل ورد الفعل. في الحوار الجميع يتفاعلون ويحصلون على ردات فعل صادقة وصريحة عن أفعالهم تجعلهم أكثر وعيا بمن هم قبل أي شيء آخر. المعلمة المنفتحة على طالباتها تتعرف من خلالهن على طبيعة عملها وشخصيتها وعلاقاتها. أو بعبارة أخرى تتعرف على ذاتها من خلال أعينهن. بهذا نصل إلى الطبيعة الصحية للعلاقة الحوارية. من خلال تجربتي في التعليم العام لثمان سنوات كان مما لا تخطئه العين الألم الذي يعانيه كثير من المعلمين بسبب طبيعة علاقته التقليدية مع طلابهم. في المقابل تجد آخرين في غاية السعادة وهم بين أولئك الطلاب.
الحوار ـ بزعمي ـ هنا هو قناة صحية للعلاقة في التعليم وخارجه. الحوار كفيل بتحقيق الأمان في العلاقة بين المعلمة وطالباتها ولا أظننا نتوقع أي علاقة صحية إذا لم تكن آمنة بالدرجة الأولى. الأمان هنا يعني انخفاض الحاجة للكذب والرياء والنفاق وكبت الأفكار والعجز عن المبادرة، الصفات التي يمكن أن تختصر لنا طبيعة العلاقة المعطوبة أو المشوهة.
الانفتاح ليس شعارا أو عبارة للإنشاء بل هو موقف وجودي عميق يؤسس علاقة التواضع والرحمة والتعاون بين الناس. المنفتح هنا متجاوز للفكرة العنجهيّة التي تقول بادعاء الحقيقة المطلقة وترويجها بالقوّة على الآخرين. المنفتح أكثر تواضعا من هذا فهو مقبل على التساؤل أكثر من الإقبال على حسم القضايا بصك المعرفة النهائية. المنفتح أكثر تواضعا وقربا من طلابه لأنه يدرك قصور معارفه ويفهم قصور معارفهم ومحدودية تجاربهم وبالتالي هو أقرب لهم وأكثر قدرة على فهم تجربتهم في التعلّم التي هي أصلا تجربته أيضا. المنفتح يملك أذنا حريصة على الاستماع مدرك أن هناك ما هو جديد ومختلف في الخارج. المعلمة المنفتحة مستعدة للدهشة من خلال علاقتها مع طلابها. مستعدة للإنصات لكلماتهم وأحلامهم وأفكارهم لتجد فيها ما هو حقيقي وجديد وصادق وذو معنى عميق. الحوار والانفتاح ممكن للمعلم والمعلمة مهما كانت البيئة معادية للحوار. في الأخير هناك مساحة في العلاقة الإنسانية لدينا فيها اليد الطولى. لدى البشر قدرة هائلة على الوصول لبعضهم رغم كل الحواجز، لديهم القدرة على رؤية الآخرين والتواصل معهم رغم حواجز الثقافة والتاريخ. على هذه القدرة تحديدا يعقد كل الأمل في معلم ومعلمة يتوجهون كل يوم لمدارسهم من أجل الدخول في علاقة إنسانية أخلاقية تربوية عادلة وصحية وممتعة مع طالباتهم وطلابهم.