في العلاقات الدولية، هناك حقوق سيادية لكل دولة عضو بالأمم المتحدة، ليس من حق أي مسؤول التفريط فيها، أو انتهاكها أو التنازل عنها. في مقدمة حقوق السيادة، حق إقامة علاقات مع الدول الأخرى، على أساس الندية والتكافؤ، وبما يخدم المصالح المشتركة الخاصة، على اختلاف تشعباتها للأطراف المرتبطة بهذه العلاقات. هذه المسلمة في العلاقات الدولية، تحمل معنى متضمنا، بحق الدول في تقرير انفراط علاقتها مع الدول الأخرى، متى ما أرادت، وبشكل خاص، حين تشكل هذه العلاقة عبئا على المصالح الوطنية والقومية، للدولة المرتبطة بها.

كان موضوع العلاقة السيادية والتعاقدية محور حديث دار بيني ومسؤول في النظام السابق بمصر، إثر اندلاع انتفاضة الأقصى. في تلك الحقبة نشرت عدة أحاديث في صحيفة الوطن، دعما للانتفاضة، انتقدت من خلالها، موقف الحكومة المصرية، ووصفها للكفاح الفلسطيني المسلح، بالعمل العبثي، الذي ليس بمقدوره تحقيق خلل في التوازن العسكري والسياسي مع الصهاينة، لصالح المشروع المقاوم.

كانت وجهة نظري، ولا تزال، أن العجز عن مواجهة المشروع الصهيوني، في ميادين السلاح، إن كان صحيحا، لا ينبغي أن يجعلنا نشعر بالعجز عن المواجهة في الميادين الأخرى. ليس معقولا أن يكون عجزنا شاملا في مناهضة المشروع الصهيوني، فنعجز في السياسة كما نعجز في السلاح. وليس على نضالنا السياسي، أن يكون خارج أطر مبادئ الحق والعدل، وما أقره القانون الدولي، من حقوق سيادية. أو ليس بالإمكان قيام مصر بتجميد العلاقة الدبلوماسية مع الكيان الغاصب، لحين اعترافه بحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة فوق ترابه الوطني؟.

أجاب المسؤول المصري السابق، أن مصر بتوقيعها معاهدة كامب ديفيد استعادت سيناء للسيادة المصرية، وأن نصوص المعاهدة تقضي بإقامة علاقات دبلوماسية بين مصر والدولة اليهودية.

صحيح أن لنا حقوقا مشروعة، يكفلها القانون الدولي، لكن فرضها على أرض الواقع هو رهن بالإرادة والقراءة الدقيقة لطبيعة المشروع الصهيوني. القراءة الدقيقة لما يجري في واقعنا العربي، بعد الحركات الاحتجاجية، تضعنا أمام واقع مر. فقد تعللنا منذ فك الاشتباك على الجبهتين المصرية والسورية مع العدو الإسرائيلي، في منتصف السبعينات وتوقيع اتفاقيات كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة، أن الشعوب العربية لم تلتزم بهذه الاتفاقيات، لأنها لم تأخذ بعين الاعتبار موازين الحق والعدل، وفرضتها توازنات القوة. وبغض النظر عن الموقف من الحكومات التي وقعت هذه الاتفاقيات، والظروف التي أجبرتها على ذلك. وهكذا شهد الوطن العربي، ولادة منظمات لمناهضة التطبيع، تعبيرا عن الموقف الشعبي في رفض الوجود الصهيوني، والتمسك بتحرير فلسطين.

ولأن ما عرف بالربيع العربي، هو تعبير عن إرادة شعبية، فقد توقع كثيرون أن يتزامن ذلك، بتفاعل مع المطلب الشعبي، الذي حكم اليقين العربي، لعدة عقود: مطلب مناهضة التطبيع مع الكيان الغاصب، لكن الأمور جرت باتجاه مغاير، لما افترضنا أنه سير التيار.

فالطابع العفوي للحراك الشعبي، الذي ساد بلدان الربيع العربي، مكن جماعات الإخوان المسلمين، من القفز للسلطة، في تونس وليبيا ومصر، ليواجهوا، من غير استعداد، مع غياب للبرامج، الأزمات السياسية والاقتصادية، التي هي مبرر نزول الشعب إلى الميادين.

ولأن السلطة بالنسبة للإخوان هي غاية المطلب، ومع غياب البوصلة، لمواجهة استحقاقات الناس، لم يكن هناك مفر من استنساخ الحلول التي اعتمدتها الأنظمة السابقة، وعلى رأسها الاقتراض من الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي، وكثير منها يتطلب خضوعا كاملا للمقرض، بما في ذلك تبني برامجه ونهجه السياسي والاقتصادي، وفتح الأبواب مشرعة لفوضى السوق.

ولإثبات حسن النية، وعملا بالتجارب السابقة، فإن إرضاء سادة المصارف وبيوتات التمويل، سيكون أجدى حين يأتي من بوابات تل أبيب. وهكذا تبارى القادة الجدد في إثبات حسن النية، في خطابات صريحة من على منبر الإيباك بواشنطون، وعبر رسائل إلى الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز وصفته بالصديق العظيم، وعبر لقاءات متكررة لقادة الربيع الجدد مع قادة من الموساد.

والأسوأ من ذلك بكثير، هو أن يصبح التطبيع مع العدو، مطلبا للمقاومة الفلسطينية، بعد حرب غزة الأخيرة، وأن ينال أحد أقطابها ضوءا أخضر من الصهاينة، لزيارة القطاع، وليعلن من هناك انتصار المقاومة على العدو، ليتماثل هذا النصر، مع انتصار منظمة التحرير، بقيادة الزعيم الراحل ياسر عرفات، الذي احتفل هو الآخر عام 1993، بقيام السلطة الفلسطينية في غزة وأريحا.

أخطر ما يواجه الكفاح الفلسطيني، أن التطبيع مع العدو الصهيوني، تمدد من الحالة الرسمية إلى الحالة الشعبية، ولم يعد مقتصرا على الأنظمة التي وقعت اتفاقيات الصلح مع العدو.

في القانون الدولي، إقامة العلاقات بين الدول حق سيادي، وليس تعاقديا. والتطورات الأخيرة، وتحت شعار نصرة المقاومة، وبغض النظر عن النوايا الحقيقية، عمقت من حالة التطبيع، وجعلت من رفضها شعبيا، أمرا غاية في الصعوبة، بعد قيام الرئيس مرسي بالتوسط بين الإسرائيليين والمقاومين الفلسطينيين، وبعد أن أصبحت مصر راعيا لاتفاقية الهدنة، التي تضمن توقف الفلسطينيين عن المقاومة المسلحة.

لا نطلب من القادة الجدد، أن يحملوا راية صلاح الدين الأيوبي، ويدخلوا القدس منتصرين للشعارات التي رفعوها من قبل عند تأسيس حركة الإخوان عام 1928، من مدينة الإسماعيلية. لكن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال أن النصر إذا كان مستحيلا ينبغي احتقاره. توقع كثيرون أن يتبنى القادة الجدد سياسات تدرجية في مناهضة التطبيع، تصل مع تغير موازين القوى إلى إنهاء العلاقات مع الكيان الصهيوني، وطي صفحات اتفاقيات الذل. لكن ما جرى هو إعادة استنساخ نماذج الماضي. الفارق هذه المرة هو أن التصعيد جاء بعد أن أثبت السلاح قدرته على تغيير المعادلة، وهو ما يجعل القادة الجدد، مقاربة مع من سبقهم في الوضع الأكثر قبولا للتفريط والاستعداد للمساومة.