قبل الشهر الكريم بأيام يبدأ الاستعداد لدخوله، يتذكر أحمد تفاصيل تلك (المقاضي) التي يجلبها والده يتذكرها بكل تفاصيلها وعبق رائحتها وتلك الأجواء الرمضانية التي يحلم بعودتها.
ما أن يأتي والده من السوق حتى يبادر بطفولته البريئة إلى فتح الكراتين لينظر ما بداخلها (تطلي، نشأ الفالودية، وشربة، وشربيت (توت)، وعلب أنس، وخوخ) ليس هناك من جديد إذن...
لحظات السحر لا تقل أنسا في طقوسها عن لحظات المغرب، فهو ينام بعد العشاء بقليل وتوقظه أمه قبل الفجر بساعة تقريبا على رائحة وجبة السحر التي تتنوع لكنها تحافظ دائماً على نكهتها المميزة، فبيته الشعبي ذو الأحواش والفناء الكبير يتيح له آمادا من الأنس تملأ قلبه الصغير وهو يفتح عينه ليرى النجوم اللامعة تملأ السماء فلا نور الكهرباء- التي لم يكن قد عرفها بعد- يحجب تلك الأنوار، ويصيخ في عمق الظلمة فلا يسمع إلا همسات خشاش الأرض من حوله، ويشتم رائحة الأرض فيجدها مخضلة بالسحر، وبرائحة سحور أمه.
لحظات المغرب هي الأخرى مشبعة بالروح، ففي الأيام التي كان يصومها وقليل ماهي، كان لا يأتي المغرب إلا وقد نشفت روحه الصغيرة من حرارة قيظ لا تطفئها المكيفات التي لم يكن أحمد يعرفها هي الأخرى بعد، وصحيح أنه كان يتحايل على الحر بوضع قماش مبلول على نافذة البيت تلطف حرارة الهواء الحارق،ولكن دون جدوى بالطبع ؛ فما أن يبدأ النوم يخاتل عينيه حتى يجف القماش ويتحول الهواء إلي نار تلظى.
قبيل المغرب يتذكر أحمد جيدا ذلك المشروب الذي يسمى في القرية (الشربيت) وهو ملعقة أو اثنتان توضعان في إناء ماء كبير ليتحول لونه لونا مزيجا بين الأحمر ولون الماء ويوضع معه السكر الذي تضعه أمه على جدار مرتفع ليعبث به الهواء فيصبح باردا سائغا للشاربين له في الإفطار..
عقب صلاة المغرب تبدأ المسامرة حيث تتقابل الكراسي وتبدأ (الحدويات) والألغاز التي كان يشتمل بعضها على مخاتلات مضحكة ويشتمل الآخر على أغاليط مسفة أحيانا،وأخرى على قصص (أبو زيد الهلالي) و(عبيديهات) ولقد كانت الجدة تحكي لنا بعض تلك القصص بل تطبقها أحيانا على معالم في القرية وكأن الأبطال سكنوا هنا..!
الجامع الكبير:
أدرك أحمد والقرية تصلي الجمعة ورمضان في جامع واحد، وبقيت الفروض تصلى في مصليات من الحصباء توضع عند كل بيت لتصلي فيها العائلة جمعاء ذكورا وإناثا..
كان يسمع عن الجامع الكبير ولم يصله ويسمع والده وهو يذكر التراويح ويذكر عبارة يتندرون بها عن ذلك الرجل الذي كان يسرع في التراويح بحيث يتمها قبل أن تجف أعضاؤه من الماء فإذا ما لامه أحد على سرعته أخذ يردد: (التراويح مثل خطف المراويح)، يتذكر أحمد والده وهو يعد نفسه وكشافه بعد مغرب رمضان ويذكر الله كثيرا وهو يتوضأ متوجها للجامع.
لم يكن الجامع قريبا، بل كان يبتعد مسيرة ساعة أو تقل حيث يستكن في عرض الجبل البعيد. وكان الطريق مليئا بالعقبات من حيات ووحوش ولكن والده كان يتحرك كل ليلة ليقضي سنة التراويح مع الجماعة مصطحبا عصاه وكشافه وصديقه الحميم.
الجامع كان بدائيا إلا من الطاعة الصادقة التي تجعل الجماعة يدلفون إليه زرافات ووحدانا من أنحاء القرية..
مظلم إلا من فوانيس بسيطة تضفي جوا من الروحانية.
مبني من حجارة أرضهم ومسقوف من خشبها وطينها الذي قد يكون مأوى لاحبا للحيات التي تتطلع لهم وهم يؤدون الصلاة فيتلاقفونها بعصيهم التي لا تغيب..
عبدالرحمن المحسني
شاعر وناقد