يمسك السيجارة في اليد اليسرى، وهاتفه النقال في يده الأخرى، وقد خرج وقت الصلاة دون أن يصلي، لكنه على وشك أن ينهي مَزّ سيجارته العاشرة، لتنطلق من شفتيه دُرر التنظير والكلام "الفاضي"، وليعقبها بالأسوأ، وهو تقريع أفراد المجتمع وتأديبهم، وهو – في الحقيقة - أول من يستحق هذا التقريع قبل التأديب.

على الرغم من التطور السريع لمجتمعنا السعودي خلال العقود الأخيرة؛ إلا أن بعض الممارسات الاجتماعية لبعض الأفراد لا تزال تدل على اعتقادهم أن لهم سلطة مطلقة في تأديب الآخرين، دون وجود أي منطلق منطقي أو عقدٍ اجتماعي ينظم مثل هذه العلاقة بين الأفراد، سواء على المستوى الأفقي بين القرناء، أو على المستوى الرأسي داخل العائلة الواحدة، أو بين العامل ورب عمله، كما كان مجتمعنا – على الأقل في نجد - يتعامل مع المخالف بشيء من الجلافة والصَلف، فمثلاً كان الرجل لا يستطع الخروج من منزله دون "شماغٍ" يغطي رأسه، وإلا أصبح أضحوكة المجتمع، أو تعرض لتقريعٍ وتحقيرٍ لا نهاية له، في تلك الأثناء كان أفراد المجتمع يتعاملون مع بعضهم كما لو كانوا أوصياء على بعضهم بعض، وكان هذا الأمر مقبولاً ضمن أعراف المجتمع وعاداته، كون الجميع يتعامل بصدقٍ وشفافيةٍ واضحة، ويطبق نفس المعايير على الجميع، مهما اختلفت درجته الاجتماعية، كما كان يحدث حين محاولة الزواج من طبقة اجتماعية أخرى، أو حينما يخطئ الفرد في تعامله اليومي مع جيرانه أو عالمه الخارجي بشكل عام.

أما في وقتنا الحاضر، وقد تشعب المجتمع وتعدد، أضحى الكثيرون يفعلون ما لا يؤمنون به، فقط لإرضاء المجتمع وعيونه، الأمر الذي أدى إلى ظهور بعض الممارسات التأديبية، وتناقضها مع فكرتها الأساسية وهي تقويم الخطأ، ورفع الحرج عن المخطئ، ومنها ما ردة فعل البعض حينما يضايقه من يخالف قوانين المرور بممارسات غير مقبولة، كأن يرد انحراف سيارة المخالف عليه بأن ينحرف بسيارته نحوه، أو يمطره بسيل جارف من السباب والكلمات البذيئة، أو قيام بعضهم بعدم السلام على المدخن، أو التحدث معه بطريقة غير لائقة، أو النظر باحتقار إلى المرأة التي لا توافق رؤيته الاجتماعية من ناحية المظهر أو السلوك الظاهر، سواء المتحجبة منهن أو السافرة.

السؤال الذي لم أستطع أن أجد له جواباً؛ ما هو الحق الذي يعطي بعضهم الجرأة في تأديب الآخرين؟ على الرغم أن نسبة كبيرة من هؤلاء يستحقون تأديب أنفسهم هم أولاً، قبل الآخرين، فبعضهم يكون غارقاً في وحل الرذيلة حتى أخمص قديمه، ويقوم بكل صفاقة بالتنظير على المجتمع، والعمل على تحقير وتأديب الآخرين ممن يقعون في أشياء قد تعد هامشية مقارنة بما يقوم به خلف الأبواب، أو حتى أمام الجميع! لكنهم رغم ذلك مستمرون في العمل على تأديب المجتمع وأفراده.

قد يجادل بعضهم أن الوقوع في الخطأ لا يعني استمراءه، أو على الأقل لا يجب أن يمنع الشخص المخطئ من محاولة منع الآخرين من الوقوع في نفس الخطأ أو أخطاء أخرى، وهذا تناقضٌُ فج لا يليق بالفرد المسلم، فهو إن كان يفعل شيئاً مناقضاً لما يؤمن به، أو يجده خطأً، أو مخالفاً لعادات وتقاليد المجتمع؛ فليتوقف عنه على الفور، أما أن يتحول إلى واعظٍ مسرفٍ بالكلام فقط، دون الأفعال الحقيقية، فليس ذلك من شيم الإسلام في شيء، فمن كان يعلم أن طعاماً أمامه مليء بالسم الزعاف، فسوف لن يأكل منه أبداً، حتى لو كان جائعاً حتى الموت، أو كانت رائحته زكية جاذبة للأنفس قبل الأفواه، بل إن الأسوأ من ذلك حينما تسوّل نفس الفرد له أن ما يفعله ليس خطأ لشخصه، لكنه خطأ عندما يقع الآخرون فيه، لأنه شخص يستطيع كبح جماح شهواته، وأنه لن يقع في الخطأ، بل هو مجرد دورانٍ حول الحمى فقط، ولعمري إن هذه هي مصيبة المصائب، وصورة شائعة من صور التناقض والنفاق التي تنخر في جسد المجتمع دون أن نعيها أو نلاحظها.

إن الحرص على تصحيح سلوك الآخرين أمر إيجابي، بل هو واجب مجتمعي وحقٌ للوطن، لأنه يسهم في تسديد ممارسات أفراد المجتمع ضمن الإطار الأخلاقي المقبول، ويساعد على تكوين شخصية إنسانية متوازنة ذات معالم واضحة، ومعايير أخلاقية محددة للخطأ والصواب، لكن كل هذا – رغم أهميته- يجب أن يتم وفق أساليب حضارية متمدنة، ومن خلال قنوات مؤسساتية واجتماعية، تعزز الاحترام الفردي، وتراعي حدود الحرية الشخصية. ولعل من أجمل صور النماذج التلقائية لسلطة التأديب الإيجابية؛ هو ما تقوم به "جماعة المسجد" للمتخلف الدائم عن صلاة الجماعة، حينما يقوم إمام المسجد أو جماعته بزيارة ودّية هادئة، لتفقد أحواله، ومساعدته إن كان محتاجاً للمساعدة، حينها نستطيع القول إننا وصلنا إلى ممارسة تأديب إيجابية مفيدة للفرد ومجتمعه على حدٍ سواء، تلك الممارسة تكتسب أهمية أشمل في مجتمعنا السعودي، كوننا لا نزال نحتفظ بترابط أسري ووازع ديني، يساعد على تأطير سلطة التأديب بين أفراد المجتمع.