محمد مشكور - العراق


سبب لي صداعاً حين أدلى بتصريحه الخطير والمتعلق بصداع الرأس، هو أكمل خمس سنوات بدراسة الطب البيطري وتخرج متفوقاً، وهذا ما يزيد الألم رطلة.

قال لأبيه وهو يعطيه ضفيرة من شعر الجمل: "أبتي، هذه الضفيرة توقف صداع الرأس، كل ما عليك فعله هو عصبها وشدّها على رأسك"، انتهى حديثه وبدأ ألم معدتي يتصاعد، ألمي ليس لأنّ القائل شخص غير متعلم حتى نعذره، بل شخص أسرف المال والوقت بدراسة ما يعرف بالطب البيطري الذي يتخصص في دراسة الحيوانات حصراً كما تعلمون، وكذلك لأنّه طالب علم في زمن الوصول إلى المريخ والآي باد، ولأنّه شخص ينوي دراسة الماجستير، ولا عجب أن أراه أستاذاً يحاضر في جامعة لم تنتقل بعقله من العقل الشائع العمومي إلى العقل العلمي.

العقل الشائع هو العقل الذي يجعل الفرد يصدق كل ما يقال له ببساطة، إلى فرد يصدق الشائع والمتداول دون تفكير أو تمحيص، أما العقل العلمي فهو العقل الذي يجعل الفرد باحثاً يبحث في خلفيات المعلومة ويضعها على طاولة البحث العلمي، إلى فرد يسأل نفسه: ما الفرق بين هذه الضفيرة وأية قطعة قماش يشدّها المريض على رأسه؟ ولماذا هذه بالذات توقف الصداع؟ وكيف لم تتوفر في الصيدليات؟ ثم ما الدليل العلمي على أنها (أي ضفيرة شعر الجمل) توقف الصداع؟ أي كيف يحصل التفاعل بينها وبين الرأس؟ وهل تفرز مواد "يشفطها" جلد المريض فيوقف بها صداعه؟! ومن هنا تبدأ مشكلة البحث العلمي، بالأسئلة، ثم يحملها الفرد وينتقل بها إلى الطريقة الإكلينيكية (المختبرية) ليتفحص من خلالها صدق المعلومة من وهمها، فإنّ صح ما قيل عنها يقال بها، وإن ظهر بطلانها كذّبها، هذا العقل العلمي الذي تصنعه الجامعات في تهيئة عقول الدارسين فيها، وهو كما المفترض أن يكون "أحد أهدافها".

وألمي هنا أيضاً: ماذا تفعل الجامعات؟ وكيف تخرّج مثل هكذا نوعية من العقول؟ وما هي "ماهية" مناهجها والآلية التي تنطلق منها في تدريسها؟ وما هو دورها في الانتقال بالمجتمع إلى مرحلة التفكير والنقد والمعرفة العلمية بدلاً من اليقين والتصورات النمطية الخاطئة؟

أعرف أنّ هناك أبحاثا أجريت حول بول البعير وفوائده وأخرى عن لحمه ونوعيته ومحتوياته، وهذه الأبحاث أيضاً معرضة للتفكير والفحص مع احترام علميّتها، كما يمكن لهذا الشخص أن يطلع على هذه الأبحاث عله يجد فيها شيئاً عن شعر الجمل!

يخيل إلي أنّ ما قاله الدكتور حازم خيري في كتابه "مقالات في الفكر الأنسني" لهو أكبر دليل على تدني مستوى جامعاتنا فضلاً عن أنه يوضح غايات الأساتذة فيها، حيث يقول في صفحة 90-91: "كنت قد التقيت، في إحدى الأمسيات القاهرية، بمدرس بإحدى كليات الإعلام.. وبرغم عدم تخصص هذا المدرس الجامعي الشاب في الفلسفة إلا أنني رأيت أنه من اللائق أن يتطرق نقاشنا إلى نواح فكرية راقية وعقلانية، خاصة وقد علمت أنه يقوم بالتدريس، أي بناء العقول، في أكثر من جامعة مصرية، فضلاً عن إعارته لإحدى الجامعات العربية!".

ويكمل خيري فيقول: "المهم، أخبرني المدرس الجامعي، أنه يريد إجراء دراسة علمية حول دور الأعمال الدرامية في دفع المرأة في مجتمعنا إلى البغاء. إلى هنا ولا غرابة، بيد أنني لم أكد أسأله عن الأهمية المجتمعية للدراسة، حتى تردد وتلعثم في الإجابة، ثم بادرني قائلاً إنها سبيله الوحيد للحصول على الترقية الجامعية!".

أستاذ يعار ويدرس في أكثر من جامعة نجده يحمل هذا النمط من التفكير! وليس وحده من يحمله، فالكثير من طلبة العلم في مجتمعاتنا يحملونه ويصرحون به ويسعون من خلاله، إلى الوجاهة! والترقية! والمال! ولا يهمهم العلم، ولذلك تبقى عقـولهم فارغة حتى من التأثر بما يدرسونه كـما لاحظنا مع الحالة الماضية، بل ينقلون هذا الفراغ إلى طلبتهم، ينقلون عدوى الاهتمام بالشكل واللقب والمظاهر، ولا ينقلون الفكر والتفكير.

فيما وصل البشر إلى المريخ بعقولهم، نصل نحن "أشباههم ونظراءهم" إلى شعر الجمل بعقولنا! إلى هذا المستوى من بلادة التفكير، وهو ما يعني أنّ علينا مسؤولية كبيرة، مسؤولية اغتيال التصورات النمطية ومسؤولية دفع مؤمنيها إلى التفكير بها، والانتقال بهم إلى العقل العلمي، علينا العمل كلٌ في مجال اختصاصه، الجامعة لها دورها في تهيئة العقول والكاتب له دوره في توثيق ما تقوله العقول وانتقادها، والمؤسسات الإعلامية لها دورها في استعراض المنجزات الثقافية والمساعدة في الوصول إلى العقل العلمي.

قبل مدة شاهدت فيلماً وثائقياً عن حقيقة الأشباح في سجن مهجور، سجن أغلب من يدخله يشعر بشيء ما... وبعد البحوث والتجارب التي استعرضوها في الحلقة والتي أجراها علماء مختصون انتهت الحلقة بأنّ الموجات تحت الصوتية بتردد معين هي التي تسبب ما يظنه البعض أشباحاً، فهي من يتسبب في "الدوخة" ورؤية أضواء خاطفة وسـماع أصوات غريبة وما إلى ذلك.. هكـذا يقوم الإعلام بنشر الوعي والثـقافة والبحـوث ودعمها، وكم أتمـنى أن تصنع هذه القناة فيلماً وثائقـياً عن شعر الجمل، فلربما اكتشفوا لنا فيه شيئاً يداوي العقل لا صداعه، ولربما انتقل صاحبنا إلى العقل العلمي.