من بعيد يظهر في الصورة التي تناقلتها وسائل الإعلام وجه وزير التجارة والصناعة، وهو يقبض بيديه على مقود سيارة نقل من طراز "إيسوزو".. كان الحدث في افتتاح أول مصنع سيارات للشركة في المملكة وعلى مستوى المنطقة، وكان الوزير في صورة أخرى يبدو سعيدا للغاية ويلوح بيده من نافذة السائق، مستبشرا بهذا الحدث.

الواقع أنه حدث يستحق الاهتمام، وهو يعيد إلينا ذكريات قريبة زمنيا لما تناوله الإعلام أيضا عن أول سيارة سعودية يتم تصنيعها وهي سيارة (غزال) الخضراء.

الفرق هنا كبير وواضح بين التجربتين، فالحدث الذي رعته وشهدته (مدن)، وهي هيئة المدن الصناعية ومناطق التقنية، والتي يرأسها أيضا معالي وزير التجارة، يمثل افتتاح مصنع لشركة عالمية قائمة وشهيرة في مجال صناعة السيارات هي شركة "إيسوزو"، بمعنى أنه سعي لتحويل المدن الصناعية في المملكة إلى مناطق جاذبة لعمالقة التصنيع في العالم لافتتاح مصانع في المملكة، وتقوم (مدن) بتنفيذ المصنع.

إذا فالقضية ليست كما تم إطلاقها: أن السعودية تصنع أول سيارة نقل، بل إن هذا العنوان فيه الكثير من التشويش الذي يحيل فهمنا للتنمية إلى مجرد عناوين وشعارات لا طائل من ورائها، فصناعة السيارات تسيطر عليها شركات عالمية عابرة للقارات، وليس من الممكن منافستها إلا محليا، وإنشاء مصنع سيارات يستهدف طبقة اقتصادية ما في المجتمع لن يجعله مصنعا قادرا على الاستمرار ولا على الصمود، وستتحول تكاليف الإنتاج إلى أضعاف تكاليف البيع. هذا النوع من التجارب يمكن أن ينجح في الهند أو في الصين، لكنه من الصعب أن ينجح في المملكة، إلا أن ما يحدث الآن في المملكة مختلف تماما عن كل ذلك، إنه نوع من توطين التقنيات المحلية، ونقل القدرات الصناعية الهائلة لكبرى الشركات إلى المملكة، وأوضح تفعيل لفكرة جذب الاستثمارات الأجنبية الخارجية إلى الداخل السعودي.

هذا هو التحدي الحقيقي. ما المانع أن يكون طموحنا لدخول شركات مثل "سامسونج" و"سوني" أو "شيفروليت" و"جيب"، أو غيرها من الشركات العالمية في مختلف المجالات؟

فكرة المدن الصناعية السعودية يجب دعمها بكل قوة، لكنها لا يجب أن تظل بعيدة عن التأثير في محيطها السعودي، فهي ليست سفارات أو مقار دبلوماسية. وفي كثير من بلدان العالم تحول المدن الصناعية كل وسائل العيش الكريم وتوفر واقعا معيشيا متحضرا ومنضبطا تسيطر عليه ثقافة الإنتاج، وهو ما مكّن هذه المدن أن تكون مؤثرة ثقافيا واجتماعيا في محيطها. كلنا نتذكر قصة "أرامكو"، وكيف باتت الآن أنموذجا لواحدة من التجارب السعودية الناجحة على مختلف المستويات.

لدينا الآن تسع وعشرون مدينة صناعية في المملكة، والدراسات، بحسب (مدن)، توضح أن العدد سيصل خلال السنوات الخمس القادمة إلى أربعين مدينة اقتصادية، في توزيع يغطي مختلف مناطق المملكة.

الخطأ الأبرز الذي يحدث الآن هو تقديم كل هذه الإنجازات بعيدا عن المعادلة التنموية الوطنية، بل والانشغال بالعناوين أكثر من المضامين، فلقد تحول افتتاح مصنع لشركة يابانية للسيارت في السعودية إلى: إنتاج أول سيارة سعودية! ليس هذا المهم على الإطلاق، المهم هو أن نعرف ما الذي تعنيه هذه المدن للاقتصاد. كم عدد الأيادي العاملة السعودية التي ستستوعبها هذه المدن، كم عدد السعوديين الذين سيعملون في هذا المصنع الأخير؟

بالإمكان أن يشمل الاتفاق مع تلك الشركات الالتزام بإقامة معاهد تأهيل وتدريب تمثل مصانع بشرية موازية لتلك المصانع، لأن توطين التقنية لا يتم فقط عن طريق افتتاح مصانع أجنبية على أراضٍ سعودية، بل يشمل أيضا خلق كوادر وطنية مؤهلة ومدربة.

بإمكان المدن الصناعية أن تمثل نافذة اقتصادية جديدة، تؤثر في الاستقرار والمستقبل الاقتصادي السعودي، ليس ذلك فحسب، لكنها يمكن أن تمثل أيضا عوامل تغيير ثقافية واجتماعية، وتفعيلا لثقافة جديدة ما زال غيابها يمثل واحدة من أبرز المشكلات المحلية.