كتب جوشوا لانديس بتاريخ 28 أكتوبر مقالا بعنوان "فيضان الحرب السورية على العراق سيكون أسوأ من لبنان"Syrian War Spillover in Iraq Will Be Much Worse than in Lebanon بدأه بملاحظة ذكية، يقول فيها إن أغلب المراسلين الدوليين في المنطقة يقيمون في لبنان وقليل منهم في العراق، لذلك يضخم الإعلام تأثير وانعكاسات ما يحدث في سورية على لبنان من ارتفاع حدة العنف، بينما ما يحدث في العراق يثير القليل من الاهتمام.

منذ اشتداد الأوضاع في سورية وارتفاع حدة المعارك بين المعارضة والنظام، شهد العراق بالتوازي ارتفاعا في حدة الأعمال الإرهابية، وخاصة مع إطلاق تنظيم القاعدة في العراق عملية "كسر الجدران" في يوليو الماضي التي أعلن عنها زعيم التنظيم الجديد أبو بكر البغدادي في تسجيل صوتي. شهر يوليو شهد وقوع حوالي 325 قتيلا وأكثر من 690 مصابا نتيجة التفجيرات الإرهابية، ومنذ ذلك الحين عاد للعراق عدم الاستقرار الأمني نتيجة التفجيرات، وكان شهر سبتمبر الذي تزامن مع إصدار الحكم الغيابي بالإعدام على نائب الرئيس العراقي طارق الهاشمي أكثر الشهور دموية في العراق منذ سنتين بحصيلة تجاوزت 365 قتيلا و680 مصابا. يوم 17 ديسمبر وحده شهد سلسلة تفجيرات متزامنة في 14 مدينة وقرية وقع ضحيتها ما يقرب من 50 قتيلا و110 مصابين، وسبقها يوم 16 ديسمبر تفجيرات وقع ضحيتها 19 قتيلا.

البعد الطائفي والمناطقي لهذه التفجيرات يكشف بشكل كبير عن العودة القوية للقاعدة في العراق وخاصة من البوابة السورية، ويبدو من الواضح أن تنظيم القاعدة يحاول استغلال الوضع السوري لإعادة تثبيت قواعده في العراق. بالمقابل هناك من لا يزال يأمل في أن يتسبب التغيير السياسي في سورية في تغيير مشابه في العراق على أساس الاصطفاف المذهبي الذي بات عنوان المنطقة.

طرحت في مقالي السابق "رؤية مغايرة تجاه تحليل السياسة العراقية" أن رؤيتنا الحالية للعراق لا تزال أسيرة صور نمطية وأيدولوجية معينة أبعد ما تكون عن فهم السياسة العراقية الحالية بتعقيداتها، مستشهدا بتقلب مواقف كل من رئيس الوزراء نوري المالكي ومقتدى الصدر تجاه إيران بحسب مكاسبهما السياسية الداخلية. ورغم أن قضية العيساوي تعيد للأذهان قضية طارق الهاشمي من قبل، إلا أن الرؤية الموضوعية لما يجري في العراق تقودنا للخروج بعدة استخلاصات منها أن العراق حظي بنسختة من الربيع العربي مبكرا من خلال التدخل العسكري الأميركي، واليوم لدى العراق مؤسسات منتخبة وتقاسم في السلطات بين القوى السياسية والاجتماعية. قد تكون هذه النسخة مشوهة ونتائجها ليست كما يأمل كثير من العراقيين أو من جيرانها العرب، إن ما يجري في العراق اليوم هو صراع على السلطة بين قوى سياسية، وهو صراع له آلياته ومؤسساته القائمة (تارة من خلال خطوات سياسية وتارة من خلال استخدام العنف).

الطائفية في العراق ورقة بيد القوى السياسية أكثر منها مبدأ فكريا، والوجود الإيراني القوي هناك واقع لا يمكن إنكاره، ولكنه لا يعني في المقابل اختزال العراق في كونه مجرد دولة تابعة لإيران. قد يكون صحيحا أن الحكومة العراقية تركن اليوم لإيران بشكل كبير ولكنه لا يعني أنها قد لا تهجرها في حال وجود البديل الاستراتيجي. وهذا ما يدفع للسؤال في المقابل حول عمق الاستراتيجية السعودية والخليجية تجاه العراق اليوم وقدرتها على إحداث هذه النقلة، خاصة وأننا قادرون على التعامل المباشر مع إيران، وتوجد سفارة لنا في طهران في مقابل عدم وجود سفارة لنا تعمل مباشرة على الأرض في العراق.

بقدر ما يبدو العراق دائرا في فلك السياسة الإيرانية بقدر ما هو في واقع الأمر على خط تاريخي مضاد لإيران. الجغرافيا السياسية والاقتصاد يكشفان ذلك، فالعراق أصبح اليوم ثاني أكبر مصدر للنفط في أوبك متجاوزا إيران التي انخفض إنتاجها نتيجة العقوبات الدولية، العراق يستفيد من ذلك وهو ما يضعه مع الوقت في مواجهة إيران. ولكن يضعه أيضا في خانة تنافسية معنا، وقد ظهر هذا خلال الاجتماع الأخير لأوبك حيث عارض العراق المرشح السعودي لشغل منصب الأمين العام للمنظمة، كما أعلن وزير النفط العراقي عدم نية بلاده الالتزام بأي خفض في الإنتاج كما تأمل أوبك إلا بعد وصول العراق لطاقة إنتاجية بحدود 4 ملايين برميل يوميا (طاقته اليوم 3,2 ملايين برميل).

العراق هو المحور الحقيقي pivot لتوازن المنطقة اليوم وليس سورية، ورغم أن التغيير في سورية سيأتي بلا شك بتحول في التوازنات وربما يمثل مدخلا لإعادة العراق للصف العربي؛ إلا أن مثل هذا الأمر لن يتأتى في حال استمرت منهجية الرؤية المذهبية القائمة على التقسيم السني – الشيعي أو تلك الرافضة للتعامل مع الواقع السياسي للعراق كما هو اليوم. لا بديل لنا عن قبول واقع أن القيادة العراقية باتت قيادة شيعية، وبالتالي التفكير من منطلق عروبي لا مذهبي، وذلك لإيجاد أرضية وقاسم مشترك أعلى. إيران وتركيا سبقتا للعراق من بوابة الشيعة جنوبا والأكراد شمالا على التوالي، والانسياق خلف دخولنا من بوابة السنة هو انجرار لقواعد اللعبة التي أرساها كلاهما، وهو ما يستدعي أن نوجد نحن قواعد جديدة للعبة تصب في الصالح العربي العام.

الإسراع بتوليد استراتيجة فعالة وواضحة تجاه العراق هو ضمانتنا لأن يكون العراق في صف حلفائنا بدلا من صف منافسينا، وهذا أمر لا يتأتى إلا بخلق مصلحة عليا مشتركة تتجاوز الرؤى الضيقة للطائفية أو تغليب مصلحة فريق على فريق داخل العراق. مصلحة العراق العليا اليوم هي زيادة مدخوله من النفط، وهو باب كبير لنا ليس فقط من خلال الوجود في ساحة النفط العراقي بل ربط مصالحه معنا، فجغرافية العراق تحد مصادر تصديره للنفط، وهو ما جعل العراق يعتمد بشكل أساس على خط التصدير الشمالي من خلال تركيا. نوري المالكي توجه للأردن الأسبوع الماضي واتفق بعد لقائه بالملك عبدالله الثاني على مشروع مد أنبوب نفطي لميناء العقبة للتصدير، وهذا مثال على توجه مهم قد يدعم ربط مصالح العراق بالدول العربية. وبالمثال يمكن لنا التفكير في مشروع مد خط أنابيب لتصدير النفط العراقي من خلال ميناء رأس تنورة أو غيرها، في حينها يصبح أي تهديد إيراني لإغلاق مضيق هرمز هو تهديد للعراق ومصالحه أيضا. (على سبيل المثال).

حسب الإحصائيات فإن نصف العراقييين اليوم أقل من 18 سنة، نحن نتحدث عن عراق جديد كليا ينشأ أمامنا، وسياستنا اليوم ستكون المحدد الرئيس لمستقبل علاقتنا بهذا البلد العربي الكبير، إما باتجاه عودته إلى الساحة العربية أو باتجاه فقده لمدة طويلة مستقبلا.