الأحداث التي رافقت صياغة وتمرير الدستور المصري وضعت المتابع أمام لحظة من أهم لحظات تشكّل أي مجتمع وهي لحظة العقد الاجتماعي. هذه اللحظة لحظة تاريخية جوهرية وغالبا ما يعيشها جيل واحد وتبقى حدثا تاريخيا غير مشهود لأجيال جديدة قادمة. لنتخيّل مثلا الطالب الأميركي الذي يدرس تأسيس بلده وكيف تمت الأمور في إعداد الدستور الذي يؤثر مباشرة على حياته. المصري أو العربي المتابع يلاحظ أمام عينيه تشكّل دستور لا نعلم حتى الآن هل سيصمد ليصبح فعلا حدثا تاريخيا جوهريا أم أن رياح التاريخ ستعصف به هو الآخر ليصبح مجرد نقطة صغيرة في رحلة الشعب المصري عن الديموقراطية.
ما أريد الحديث عنه هنا هو علاقة الدستور بالناس أو القيمة التي يمتلكها الدستور على أرض الواقع. نحن نعلم أن الدستور يأخذ قيمته من قناعة الناس به واحترامهم له والتزامهم بتطبيقه. هذه القناعة والاحترام والالتزام تترجم في النظام الديموقراطي إلى فعل يتحقق من خلال مؤسسات الدولة التشريعية والقضائية والتنفيذية وكذلك من خلال مؤسسات المجتمع المدني والإعلام الحر وحراك الناس السياسي في المجال العام. هذا هو تحديدا ما يشكّل الفرق بين دولة أوروبية ودولة من وسط أفريقيا تتشابه نظريا في دساتيرها ولكن الدولة الأفريقية تفتقد للشروط التي تجعل من الدستور واقعا مما يجعل الدستور في نهاية الأمر مجرد مستند رسمي موجود في الخزانة الرسمية وليس له من أثر خارجها.
لإيضاح هذه الصورة أكثر، لا نحتاج سوى للتأمل في كون الدستور ما هو إلا عقد اجتماعي بين الناس والسلطة. السلطة هنا ليست إلا شخصية اعتبارية وإلا فالعقد هو بين الناس أنفسهم. أي العقد الذي يعقده الناس لتحديد العلاقة بينهم، العلاقة التي تأتي الدولة بمؤسساتها كأحد أهم اللاعبين باعتبار أن هذا العقد تحديدا هو الذي يسلب حق استخدام العنف من الجميع ليعطيه وفق شروط وضوابط للدولة ذاتها. إذن الدستور هو عقد بين الناس يترتب عليه توزيع لسلطات معينة تجعل جزءا من هؤلاء الناس يمتلكون سلطات أعلى من غيرهم. لاحظ أنه لحظة التعاقد يفترض أن يتساوى المتعاقدون ولو نظريا في القيمة والاعتبار والسلطة. التعاقد الذي يتم بين غير متكافئين مظنّة كبرى للجور. نتذكر هنا قضية ـ سأفصّل فيها لاحقا ـ وهي أنه كما توجد جهة ثالثة تشرف على تعاقد الشركة مع العمال (مكتب العمل والعمال في السعودية مثلا) فإن العالم، على ما في هذه الكلمة من ضبابية، هو جهة إشرافية على دساتير الشعوب. المهم هنا هو ميزان القوى لحظة التعاقد وأثر هذا على طبيعة التعاقد.
في نظريته للعدالة، يرسم جون رولز مشهدا افتراضيا للحظة التعاقد أو ما يسميه هو بالموقف الأصلي. المتعاقدون في هذا الموقف في حالة من الجهل لأوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية رغم معرفتهم بالظروف المحيطة بهم. بمعنى أن أطراف التعاقد الاجتماعي لا يعلمون هل هم أغنياء أم فقراء، هل هم من الطبقة المنتفعة أم من الطبقة المسحوقة ولكنهم يعلمون في نفس الوقت أن عالمنا هذا خاضع للحسابات الاقتصادية والفكرية والثقافية والاجتماعية. تحت الشعور بالخوف من الاضطهاد يتفق هؤلاء على مبدأ المساواة بينهم في الحقوق والحريات ويتعاقدون على حفظها. طبعا هذا المشهد متخيّل ورولز يعلم أنه كذلك ولكن المقصود منه هو استخدامه كتصميم أو وسيلة لفهم حالة التعاقد الأولى. نلاحظ هنا أن رولز يستبعد التعاقدات الصورية التي تقوم على مفهوم الغلبة ويتحدث عن تصوّر معين للدولة الحديثة التي قامت على توافق سلمي.
مشهد رولز هذا يمكن استعماله كمعيار لفحص التعاقدات الدستورية. بمعنى أنه معيار يمكن من خلاله قياس طبيعة التعاقد الذي جرى وبأي شكل من الأشكال حضرت الخلفيات الاقتصادية والاجتماعية والدينية لأطراف التعاقد في عملية التعاقد. كذلك طبيعة ضغط القوى الذي حصل وإلى أي مدى أخل هذا الضغط بقيمة المساواة التي تجمع ولو نظريا أطراف العقد الاجتماعي.
لنتذكر هنا أيضا أن الثورة هي بشكل أو بآخر عملية "تصفير للمجال العام". كتبت عن هذه القضية بتوسع هنا في 22/7/2012 تحت عنوان "الثورة بوصفها (تصفيرا) للمجال العام". المقصود هنا هو أن الثورة هي قوّة معنوية ومادية تتحرك من أجل دفع قوّة أخرى ترى أنها غاشمة من المجال العام. أي من فضاء الدولة والحياة العامة. المجال العام في الدولة الحديثة قائم على تحقيق توازن معين بين القوى يجعل منه فضاء مفتوحا تتحرك من خلاله قوى التغيير والتجديد والمعارضة في المجتمع. في حالة الاستبداد تهيمن القوّة المستبدة على هذا المجال وتمنع القوى الأخرى في المجتمع من الحضور والمشاركة. الثورة تحدث لدفع هذه القوّة غير الشرعية وإعادة فتح المجال العام. انفتاح المجال العام يعني بشكل أو بآخر أن تقترب حالة القوى المسيطرة على حساب الآخرين من الصفر. المجال العام في حالة الصفر مفتوح لجميع المواطنين للتعبير والمشاركة الاجتماعية والسياسية. ميدان التحرير كان في لحظات معينة في حالة صفر سياسية أو بمعنى آخر اقترب من حالة الصفر من القوى الاحتكارية لهذا الميدان.
إعادة المجال العام لحالة من التوازن تجعل جميع الأطراف قادرين على التعاقد من جديد في حالة من التكافؤ هي هدف جوهري لأي ثورة وما يتحقق في حالة التعاقد هو مقياس واضح لمدى وصول هذه الثورة إلى أهدافها الأولية على الأقل في حالتها الصورية مما يمهّد لاحقا لتحقيق الثورة لمستوى معين يشعر به المواطن الفرد في حياته العاديّة. في المقالات اللاحقة سأفكر في الحالة المصرية لفحص إلى أي مدى كان الدستور الجديد عبارة عن تعاقد بين أطراف متكافئة وعن دلالة هذا في القضية الجوهرية وهي تحقق الدستور إلى واقع والذي قلنا في البداية إنه يتطلب قناعة واحترام والتزام الناس بتحقيقه.