كتب الشيخ الدكتور صالح الحصين مقالا بعنوان "الإسراف في التقنين: عامل مؤثر في وجود الفساد الإداري"، ولأهمية الموضوع وأثره في مسيرة البناء والفكر رغبت في أن أتجرّأ وأناقش شيخي الدكتور صالح، وأتمنى من فضيلته أن يتحمل جُرأتي في نقاش مَن هو في مقامه في العلم والحكمة والزهد والفضل، ويعلم الله لولا المصلحة العامة لما كتبت حرفا من هذا.
الحقيقة أنني تعجبت كثيرا من رجل قانون في الأساس أن يدعو إلى التخفف من القانون! فحتى أولئك الذين يرون حرمة التقنين فإنهم قد تجاوزوا في مجملهم رأي الشيخ، وأصبحوا يدركون أهمية وضع اللوائح التنظيمية والتنفيذية!
وبعد التأمل في كلام الشيخ، وجدته قد عاب التقنين ولكنه يدلل على ذلك بسوء التقنين، وفرق بين من ينتقد التقنين ومن ينتقد سوء التقنين! فسوء التقنين لا يعني أن التقنين هو العيب، بل العيب في كون ذلك التقنين سيئا أو معيبا. ولا أخفيكم أنني احترت في فهم كلام الشيخ، فهو يؤكد على أهمية القانون والتقنين، ثم ينقض هذا المبدأ في بعض تقريراته!
الغريب أن الشيخ يتحدث عن الإسراف في التقنين في سياق حديثه عن بلد تأسست الفتوى بالأغلبية فيه بحرمة التقنين حتى الآن! وهي من أقل دول العالم في إصدار الأنظمة إن لم تكن الأقل بسبب منع التقنين!
يقول الشيخ: "إن لدى رجل الإدارة في وطننا الحبيب غراما غير عادي بسن الأنظمة" ولا أدري عن هذا الغرام يا شيخ! أين هي هذه الأنظمة التي تتحدث عنها؟ ونحن نشتكي من شحّ الأنظمة واللوائح! بل هناك أجهزة كاملة تعمل بلا لوائح أصلا!
أسَّس الشيخ أن التنظيم والتقنين يؤدي للفساد الإداري! وبهذا الرأي يخالف أهم منتج من منتجات البشرية في حضارتها الحديثة وهو الذي أجمعت على أهميته وجوهريته في النهضة وتأسيس دولة العدل والصلاح كلُّ الحضارات المعاصرة، ذلك هو التقنين وتطور آلياته التي أدت لهذه الحضارة التي لم يسبق لها مثيل!
هل المقصود جودة القانون؟
تحدث بعد ذلك الشيخ عن ضرورة كون القواعد المنظّمة حكيمة، فهل المشكلة يا شيخ في مدى عدالة النظام وجودته؟ إذا كان كذلك فكلنا معك في أن النظام يجب أن يكون عادلا حكيما وإلا سيصبح تشريعا للظلم والفساد، ولكن من سياق الكلام أرى هناك تعارضا بين هذه المقدمة وتفاصيل المقال.
أثنى الشيخ على القواعد الحكيمة والعادلة في الغرب، ولكن من أهم ما تميز به الغرب التقنين ووضوحه وتطوره، وقد عشت فترة في الغرب ولا تكاد تدخل مكانا إلا وتجد عشرات القوانين والتنظيمات، فقائد الدراجة له قواعد يجب أن يلتزم بها، وكذا المشاة عليهم واجبات مرور؛ وإلا فإنهم قد يتعرضون للمخالفة كقائد السيارة وهكذا، فلم يتفوقوا علينا إلا بوضع القوانين التي تنظم كل شيء، ولم يتركوا الأمر فوضى بلا قانون.
ذكر الشيخ مثالا في كون صرف المضادات الحيوية في ألمانيا أقل منه بكثير في الدول المتخلفة، وطبق هذا على استخدام القانون، فكثرة القوانين ككثرة المضادات المضرة! ولكن أذكّر الشيخ رفع الله قدره بأن ألمانيا من أكثر الدول تطورا في القانون، ولم يحصلوا على هذه الدرجة من التقدم إلا بالتنظيمات التي تحاسب تفصيلياً ذلك الطبيب والمستشفى وكل مسؤول! وليس بنظرية أن التنظيم هو سبب الفساد.
في موضع آخر تحدث الشيخ أن مشكلتنا الرئيسية هي "في قصور متابعة تنفيذ القواعد التنظيمية أو انعدامها"! إذا يا شيخ ها أنت تقرّ بأن المشكلة ليست في وجود التنظيمات وإنما في قصور التنفيذ! ومع أنني مؤمن بأن من القصور في التنظيمات عدمَ وجود آليات تطبيق جيدة في النظام، إلا أن القصور في التنفيذ مسألة أخرى قد لا يكون العيب في النظام! فما أدري ما علاقة هذا بالفكرة التي يريد الشيخ التأسيس لها؟
تحدث الشيخ عن السلطة المطلقة التي تنتج عن ضعف المتابعة "الرقابة"، ثم أتبع ذلك بأن كثرة التنظيمات تشتت الانتباه مما يؤثر سلبا على الجودة، ولكن يجب أن يُعلم بأن أهم أسباب السلطة المطلقة هو ضعف التقنين والتنظيم أو انعدامه! وما أدري هل الحل في بلد حالة المتابعة فيه ضعيفة - كما يذكر الشيخ - أن نزيد الضعف بالتقليل من النظام كي تنطلق السلطة المطلقة أكثر من ذلك!
إن عدم وجود النظام واللوائح التنظيمية يعني بالضرورة الفوضى والسلطة المطلقة التي تفتح باب الفساد!
أشار الشيخ إلى أن قصور المتابعة "الرقابة" يعطي صاحبها حرية التصرف والعمل (وهي إيماءة على أن التقنين يؤدي إلى تقييد من يريد الإصلاح حسب فهمي) مما يعطيه تنافسية وقدرة على الإصلاح! ولكن يجب ذكر أن من أهم معايير العدالة والإصلاح التي تميزت بها الحضارة الحديثة وهي ما أكد عليها الإسلام، أن القانون يوضع ليحكم على الجميع حتى على الصالحين، فتلك الحرية في الإصلاح التي تتحدث عنها يا شيخ قد تنقلب بعد الرجل الصالح إلى حرية في الإفساد! ولا يمكن تبرير عدم التقنين بأن القانون يعوق المصلح، حيث إنه يجب أن يعوقه عن الاستفراد والتمادي كما يجب أن يكون الإصلاح من خلال النظام وليس كلاً بهواه!
واستشهد الشيخ بالآية الكريمة: (يا أَيُها الَّذين آمنُوا لا تسْأَلوا عن أَشياء إِنْ تُبد لَكم تَسُؤْكُم) وكان بودي أن استشهد بآيات الأمر بالكتابة للدَّيْن وآيات الأحكام الشرعية المفصلة، حيث أسست لقواعد الفقه الإسلامي كله! كما أن كلام الشيخ في كثرة التنظيمات ينطبق على كلام الفقهاء وبحوثهم في مسائل الفقه والدين، فلا يُذمّ إطلاقا بكثرة التقعيد والبحث في المسائل العلمية طالما كانت في إطارها الصحيح.
أكرر اعتذاري لشيخي الكريم، وأدعو الله أن يُمكّنني من لقياه للاعتذار له.