إن ديننا الإسلامي يحث على التواد والتراحم، فلماذ نحيا سلوكا قنفذيا، حيث يتحوصل كل منا محتميا بمجموعة أشواك في تحفز حذر؟
لم تكن للعربي يد في هذا بقدر ما للعالم بثقافته النزَّاحة السهم الأكبر في نشر هذه الدائرية في السلوك البشري، حتى تسللت في مجرى الشرايين المعرفية والتي هي بطبيعة الحال منوطة ببناء الشخصية.
والقّنفَذَة لا تأتي إلا من شخصية، إما خائفة، أو ضعيفة، أو متطرفة الأفكار.
فالقُنفذ يتحوصل استعداداً لقذف أشواكه حين يخاف، فيطلق سهاماً عشوائيةً قد لا يعرف مداها، فهو مخلوق ضعيف للغاية ورأسه صغير لا يحتوي على مخٍ كاف للتفكير. ومن هنا تأتي أشواكه لتؤلم غيره لمجرد ظنه أنه سيحمي نفسه. إنها تحدث دائرة حوله تتيح له الهروب. أما متطرفة وهو أصعب ما في الأمر، فهي الشخصية التي لا تعجبها إلا آراؤها، وتطلق سهامها على كل من يخالفها الرأي، بالرغم من أنها تصدر رأيا في كل شيء وفي كل أمر وبدون تخصص أو مفهوم معرفي لمصطلح أو لمسارات لفكر ممنهج، لأبسط مناحي الفكر والعلم والفلسفة، منصبة نفسها عالمة بكل مدارات الحياة، مصادرة لمن يناقشها أو يحاورها حتى لو كان الآخرعالما أو مفكرا أو متخصصا في ذلك الأمر.
ظهرت هذه الشخصية المقنفذة مع ظهور النزعات التحررية الجديدة ومع هزات ما أسموه بالربيع العربي، فكانت هذه الشخصية تظهر بشكل كبير، وبجرأة دون علم ببواطن الأمور على الساحة، سواء كانت سياسية أم مجتمعية أم دينية أم حتى أمور قواعد المرور. ظهرت هذه الشخصية بشكل يهدد المجتمع، فلا تسمع إلا نفسها، ويبدو أن ذلك يرجع إلى تكوين القنفذ نفسه، إذ إن آذانه دائما صغيره لا تتعدى حجم رأسه المدفون في جسمه بلا رقبة .. ويبدو أن جينات هذه الشخصية قديمة بيننا وفي تاريخنا، إلا أن هذا الزمن المتقلب قد أعطاها نسمة من الهواء فنمت وترعرعت, ولا أتحدث في هذا الأمر عن مشكلة أو قضية محلية بل كل الوطن العربي.
قال الإمام الشافعي في قصيدته:
أما ترى البحر تعلو فوقـه جيـف...وتستقـر بأقصـى قاعـه الـدرر
وفي السماء نجـوم لا عـداد لهـا...وليس يكسف إلا الشمـس والقمـر.
حينما أخرج خارج الوطن العربي أجد العربي مهتما، متزنا، يسمع ويُقَيِّم، فلا تظهر تصرفاته القُنفذِية إلا في مجتمعه! يتطاول، ويتحدى، ويقذف غيره بما ليس فيه في بعض الأحيان حتى وإن وصل الأمر إلى الأخلاق بلا هوادة، وبدون وثيقة وبدون وعي لما قد يضر مجتمعه ونفسه وأقرب الناس إليه، كما أن السلوك الحضاري يتطلب أن نميز الشخصية المتحاورة ووزن ثقلها المعرفي, ونتعلم منها ما يفيد. لم يعد أحد بعيدا عن أشواك القنافذ في يوم نستقي ثقافتنا فيه من التلفاز أو المقهى الذي تدار فيه ألوان من الخوض في كل شيء، أو من داهية هذا الزمان وهو "فيس بوك وتويتر" والمصيبة أنهم أسموها بـ "التواصل الاجتماعي". لم تعد وسيلة للتواصل الاجتماعي، بل أصبحت وسيلة للقدح والردح، وبطبيعة الحال لأنه يتحدث من خلف ستار وباسم مستعار، فيقذف أشواكه دون هوادة، وبالتالي فنحن من غيَّرنا وظيفته التي اخترع من أجلها، فأصبح وسيلة الفرقة الاجتماعية والتلاسن ونشر غير الحقائق التي قد تضر بالمجتمع والوطن، وليس كل من ارتاد هذه التقنية- فلها منافع كمضارها - وإنما من تخصص في القنفذه ليس إلا. إن سمات العربي والتي نزهو بها جميعا المواجهة - والتي هي من سمات الفرسان - وليس من خلف قناع أو باسم مستعار.
إننا كمجتمع عربي، وفي يومنا هذا على وجه الخصوص، نحتاج إلى الحوار، في كثير من الأمور المهمة التي تخص مفاصل المجتمع، مثل قضايا المرأة وحرية الرأي والانتماء والأحوال الشخصية وقضايا الثقافة والفن ومنظمات المجتمع المدني وغيرها من الحريات المدنية بهذا الشكل أو ذاك، نحتاج أن نسمع بعضنا في حلم وتؤدة ونقاش بناء يتمخض عن علم وفهم ومعرفة، لأننا نواجه غطاءً مكشوفا أمام العالم، فتهب علينا العواصف من كل اتجاه في ظل التقنيات الإلكترونية والعوالم الافتراضية التي سادت واقعنا دون استئذان ودون جاهزية لتلقي هذا الخطاب العالمي غريب التركيب وشديد التعقيد، في مجتمع من أهم سماته - التي توطدت في جيناته - أن ثقافته سمعية، وسميت بالثقافة (القولية) أو أطلقوا علينا في تصنيفاتهم الشعوب القولية، فاشتهرنا بها ونبغ أجدادنا في الشعر وصنع الأساطير وثراء الخيال، كما تقر الدراسات وعلم الإنثربولوجي، وحين تحولت ثقافتنا إلى ثقافة بصرية (ثقافة الصورة) أصابتنا ما يسمى في التحليل النفسي بـ "الصدمة الحضارية" "Culture shock "وهو الهوس بكل ما نراه وبدون اتزان نتج عن ذلك ظهور الشخصية القنفذية في العمل وفي الشارع وفي المنزل في آخر المطاف، يقول الشيخ محمد حسان: "سلبيات الواقع الحواري إن لم تكن معي فأنت ضدي. أحادية خطيرة!.. هذه الأحادية ثم التجني السحيق للغة الحوار استخدمت أقذع الألفاظ وأفظع الشتائم والتهم، وصارت البرامج الحوارية المعروفة على الفضائيات سبا واتهاما للذات وانتهاكا للأعراض وتجريحا للخلق. صار البيت الواحد .. الآن بلا استثناء لا يأمن على عرضه، لأنه ترك الألسنة تلقى جزافا دون بينة أو دليل. يترك المجال فسيحا، كل من شاء يقول ما شاء، فيكتب على مواقع التواصل الاجتماعي ماشاء ثم يمضي بعد ذلك آمنا مطمئنا ثم يصبح الناس يمسون ويصبحون وأعراضهم مجرحة وسمعتهم ملوثة وكل فرد فيهم مهدد بالاتهام. هذه حالة من القلق والشك والريبة لا يمكن أن تطاق بأي حال من الأحوال، فضلا عن أن نبني في ظروفها بلدا أو وطنا "مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ".
ولكن كما قال الشافعي:
نعيب زماننا والعيب فينا ..وما لزماننا عيب سوانا
ونهجو ذا الزمان بغير ذنب...ولو نطق الزمان لنا هجانا
وليس الذئب يأكل لحم ذئب.. ويأكل بعضنا بعضا عيانا