لقد تعودنا من قيادة بلادنا حرصها على مصلحة مواطنيها وعلى استتباب الأمن والاستقرار ورعاية مصالح جميع فئات وطبقات المجتمع. وبمراجعة المراسيم الملكية والقرارات الوزارية منذ بداية الحكم السعودي نلحظ دائماً أنها قرارات عادلة وصائبة تصب في مصلحة المواطنين والوطن حتى عندما أصدرت الحكومة السعودية قبل عقود بعض القرارات التصحيحية لأسعار بعض الخدمات المقدمة من الدولة للمواطنين، مثل أسعار الكهرباء وأسعار الوقود والماء والنقل العام والجوي، وبعد صدور القرارات لمست القيادة مشاعر ورغبات وتطلعات أبناء الوطن في إلغاء هذه القرارات أو تخفيضها، فنظرت إلى المصلحة العامة أولاً قبل المصلحة الاقتصادية، ورغم أن القرارات كانت قرارات تصحيحية لأسعار خدمات كانت تقدم بأقل من تكلفتها مما سبب خسارة على الشركات المقدمة للخدمة؛ إلا أن الدولة قدمت المصلحة العامة للمواطنين وجمدت قراراتها وتحملت فرق التكلفة والربحية، ورغم أن ذلك يخالف اقتصاديات المشاريع إلا أن القيادة السعودية كانت تقدم مصلحة وراحة شعبها أولاً، مما انعكس إيجابياً في زيادة محبة وولاء مواطني وسكان المملكة لقيادتها. وتمشياً مع هذه السياسة الرشيدة والحكيمة فإنني أطرح اليوم وللمرة الثانية رأيي الشخصي في قضية أخذت حيزاً خلافياً اتسعت رقعته، وتجاوز حسابات صانعي قرار هذه القضية، وتحولت القضية من قضية الإلزام بتطبيق قرار فرض رسوم مضاعفة على أصحاب الأعمال تتعلق بتشغيل العمالة الأجنبية إلى قضية خلافية مجتمعية تشنجت فيها الأطراف المعنية في القرار، وتجاوزت اللياقة في الحوار.

وإن كان القرار قُصد به تحقيق بعض المصلحة العامة إلا أنه يعد اجتهاداً من مسؤول لتحقيق هدف عام وليس شخصيا، لكن التطبيق قد أحدث خلافا مجتمعيا بين أبناء الوطن، كما أن التطبيق الفعلي قد يسهم مستقبلاً في رفع الأسعار بصورة مباشرة أو غير مباشرة وبالتالي يُخشى أن يحقق ضررا لا يقبله صانع القرار، أو لن يقبل به المجتمع. وكما أسلفت في مقالتي السابقة في نفس الموضوع أنه لم يشهد الوطن قراراً اختلف فيه أبناء الوطن بالرأي مع السلطة التنفيذية مثل هذا القرار، ولم يجتمع رجال الأعمال والقطاع الأهلي على موضوع يتحدون فيه للتصدي لقرار مثل هذا القرار، الذي تفاعل معه الإعلام بمختلف وسائله المرئية والمقروءة والإلكترونية، ولم يخل حديث المجالس الخاصة والعامة من هذا الموضوع سلباً وإيجاباً.

لقد طالت فترة النقاش والاعتراض ودخل على الطريق بعض من المؤججين للخلاف لإشعال نار الخلاف بين الرأي العام ومسؤولي الدولة. وأخيراً دخل على الحوار مجموعة أفاضل من المحامين والمشايخ مقدمين آراء شرعية وقانونية، وبلهجة ارتفعت فيها نبرة المعارضة للقرار وبحجج ومستندات مستقاة من النظام الأساسي للحكم، حيث استند بعض القانونيين إلى المادة 67 من النظام الأساسي للحكم، والمادة 18 من النظام الأساسي للحكم التي تنص على أنه لا يجوز لأي من المؤسستين (مجلس الوزراء ومجلس الشورى) أن تنفرد بالتشريع، وإنما يكون إصدار التشريعات بالمشاركة بينهما وتتوج قراراتها بمراسيم ملكية حتى تصبح قوانين ملزمة. وبناء عليه لا يجوز فرض ضرائب أو رسوم إلا بموجب نظام. ويرى العديد من القانونيين والاقتصاديين والشرعيين أن النظام الأساسي للحكم الصادر عام 1412 هو أهم وثيقة دستورية في المملكة، حيث عرّف طبيعة الدولة وأهدافها ومسؤولياتها والعلاقة بين أفرادها، كما يوضح سلطات الدولة الأساسية المتمثلة في السلطات التنفيذية والتنظيمية والقضائية. ويؤكد رجال القانون والقضاء أن المبادئ الدستورية المتفق عليها لدى فقهاء القانون هي مبدأ تقديم الدستور على بقية الأنظمة والتنظيمات والقوانين، والدستور هو المرجعية الأولى وعلى جميع الوزارات والوزراء والسلطة التنفيذية الالتزام بقواعد الدستور التنظيمية. ولا يجوز تجاوز أحكام النظام الأساسي للحكم بإصدار أنظمة وتنظيمات من السلطة التنفيذية سواء كانت هذه الأنظمة والتنظيمات صادرة من مجلس الوزراء أو بقرار وزاري وفقاً لما حدث بقرار فرض الرسوم من وزارة العمل. واستناداً إلى المادة (20) من النظام الأساسي للحكم التي تنص على أنه لا تفرض الضرائب والرسوم إلا عند الحاجة إليها وعلى أساس من العدل والمساواة ولا يجوز فرضها أو تعديلها أو إلغاؤها أو الإعفاء منها إلا بموجب نظام، والمقصود بكلمة نظام الواردة في هذه المادة القرار الذي يصدر ممن يملك سلطة إصداره بمرسوم ملكي وفقاً للشكليات التي وضعها النظام الأساسي للحكم وحدد آلياتها اقتصاراً على مجلس الشورى ومجلس الوزراء مجتمعين. ولهذا وبعد هذه المقدمة الطويلة المفصلة واحترامي للرأي العام المختلف الآراء ومنعاً من مواجهة مزيد من الاحتقان الذي قد يدفع البعض إلى اللجوء إلى ديوان المظالم والمحاكم الشرعية ولجان حقوق الإنسان مما يخل بهيبة الوزراء والوزارات ومنعاً من تأثير القرار على الأسعار السائدة لبعض السلع الأساسية التي قد يصعب الأمر بوقف ارتفاع أسعارها المبررة فيما بعد؛ فإنني أقترح تجميد العمل بقرار وزارة العمل الخاص بزيادة رسوم رخص العمل الذي أسس على قرار مجلس الوزراء رقم 353 في 25/ 12 /1432 القاضي بإلزام القطاع الخاص بدفع مئتي ريال شهرياً عن كل عامل أجنبي لديه، وإعادة مضمون القرار إلى مجلس الشورى لدراسته وتقديم التوصيات بشأنه على أن يأخذ القرار مسلكه الإجرائي حتى ينتهي بقرار جديد من مجلس الوزراء متضمناً رأي مجلس الشورى، وبعد ذلك يكون على القطاع الخاص الالتزام والعمل بموجب القرار الجديد.

آمل أن يحظى هذا المقترح بالقبول لوقف الجدل والخلاف الذي أخذ حيزاً كبيراً من وقتنا. فما الذي يمنع أن نصبر عاماً آخر حتى يستكمل القرار جوانبه الدستورية؟