إن "جميع ما ذكر" هو أحد اختيارات الإجابة المنتقاة بعناية من قبل أحد الأكاديميين لنموذج الأسئلة التاريخية التي وضعت لمرحلة البكالوريوس في جامعة الإمام محمد بن سعود، التي تتناول أسباب هجرة الشيخ القرعاوي إلى الجنوب، وكانت تلك الأسئلة تشير بصورة خاصة إلى مغالطات تاريخية تتعلق تاريخيا بأهل الجنوب، وضعت وفق الفهم التاريخي للشخص الأكاديمي ووفق أهوائه، وليس كما هي في حقيقتها، وهنا تكمن المغالطة العلمية التي تمثلت في وضع خيارات محددة مما أثار حفيظة الكثيرين حين تنشر صورة من نموذج الأسئلة المثيرة للجدل عبر مواقع التواصل الاجتماعي حيث انقسم الناس إلى جبهتين تاريخيتين، وهنا يظهر لنا كيف أن التاريخ يمكن أن يعود مجددا لتبعث فيه الحياة لأسباب كثيرة، ولكن هل التاريخ دائما حقيقة مسلمة؟
يقول البروفسور بيترهيل "إنّ التاريخ الذي يُدرَّس في اتّجاهٍ معيّن يصنع المتطرّفين والمتعصّبين، والتاريخ الذي يُدرَّس على وجهيه يشحذ روح النقد ويجعل المرء أكثر إنسانيّةً وإنصافاً".
التاريخ ليس في كل حالاته حقيقيا لأنه يخضع لعناصر مهمة هي محور التأريخ دائما، وهي التشويه الخطابيّ: وهو أن ننسب إلى الأشخاص مواقف وأعمالاً وعواطف بكلماتٍ تنمُّ عن النُبل، التشويه الملحميّ: وهو أن يُجمِّل الحكايا بإضافة تفاصيل مشوّقةٍ، وأسماء أشخاصٍ وحتى أماكن وذلك أنّ ذِكر تفاصيل دقيقة توهم الصدق. التشويه الدرامي: وهو أخطر أنواع التشويه، حيث يحشد المؤلّف الوقائع ابتغاء التركيز على زمن محدد أو شخصٍ واحدٍ أو جماعةٍ واحدةٍ. وهذا النوع من التدوين يكون مصدره أن المؤرخ يدون ما لديه وفقا لما يستشعر من انتماء أو نفور من جماعة من الناس أمة أو حزب أو قبيلة أو مذهب يتمثل في فرقة أو دين، مما يعطي فكرة سيّئةً عن خصومه في الانتماء أو التوجُّه. ليُحدِث في التأريخ ومن سيأتي بعده تأثيراً ينطوي على ما يؤكّد أن جماعة ما أو شعبا ما كانوا ذوي مناقب جليلة بخلاف غيرهم، وهنا يصبح التعليم والتأريخ وسيلة للتضليل لا للتعريف بالحقائق.
التاريخ ليس ما نقرأه بل إنه ما حدث بالفعل وهنا تكمن حقيقة فكرة التأريخ عبر العصور، فمثال هذا النوع من التأريخ أن من كتبوا عن (نيرون) بالغوا في الحطّ من تاريخه، حتّى صار مضرب المثل في البغي والعسف. فاتّهموه بأنّه أمر بقتل أمّه، مع أنّها قُتلت دون أن يدري، اتّهموه بأنّه أمر بإحراق روما ليشاهد النيران تلتهم معالمها وتفتك بأهلها، بينما هو ينشد الأغاني ويعزف على (الكمان) لاهياً. والحقّ أنّ النار التي أحرقت روما شبّت قضاءً وقدراً، وأمّا (الكمان) فلم يُخترَع إلاّ بعد عهده بمئات السنين!
لهذا فإن المعلم والأكاديمي الذي يوظف فكره الخاص وأهواءه مستعيناً بجزء من الحقيقة على حساب الحقيقة ليس إلا شخصا يضلل الأجيال التي سوف تنقلها بالتواتر والتسليم بها، وتنبغي مساءلته ووضع ألف علامة استفهام على أمانته العلمية وجميع ما ذكر.