تقوم فكرة "المقهى" بالأساس على وجود مكان مريح يتيح فرصة للتلاقي الإنساني والحديث بأريحية مع تناول المشروبات، ولكن طغيان القهوة على المشروبات بسماتها المنبهة جعل المقهى يأخذ صفته منها.
وعلى الرغم من ارتباط تاريخ المقهى بالحي، إلا أن وظيفته لم تكن حصراً على مكان يتيح للساكنين والعابرين شرب القهوة والشاي وتناول المأكولات الخفيفة، وبالتالي لم يكن مقهى الحي فقط ساحة لشرب القهوة ولعب النرد والورق ومكاناً للعاطلين والمجرمين والنشالين كما صورته الدراما العربية!
فرغم كونه مكاناً يسع ويستقبل جميع من يفدون إليه، لما يتيحه لهم من تجمع وترفيه وتواصل إنساني، تطورت سيرورته التاريخية لتضاف إليه وظيفة أخرى بعد أن يشهد المقهى تبدلاً في نوعية مرتاديه، فالنخبة يأتون إلى المقهى، لأنه يمثل بالنسبة لهم ركناً هادئاً هو بمثابة نقطة التقاء وحوار في شؤون الثقافة والسياسة والمجتمع. وكثير من أبرز المثقفين والمفكرين والأدباء برزوا من خلال المقهى، الذي لم يكن بالنسبة لهم سوى ساحة ثقافية يلتقون فيها بحرية وشفافية.
ففي بغداد برز مقهى (الزهاوي) منذ سنة 1917 ليضم أبرز المثقفين والأدباء، ومنهم محمد مهدي الجواهري، والدكتور علي الوردي، ومحمد بهجت الأثري، وعلي الشرقي، ونوري ثابت، وعادل عوني، وتوفيق السمعاني، وإسماعيل الصفار وغيرهم. وفي هذا المقهى تم استقبال الشاعر الهندي الكبير طاغور، وكان الزهاوي في مقدمة مستقبليه (كما تشير جريدة الناس العراقية).
وبما أن المقهى كان يعكس بوضوح جزءاً مهماً من حياة الناس فقد برز المثقفون في مصر عبر المقاهي التي من أشهرها مقهى (الفيشاوي) في القاهرة الذي يعود إنشاؤه إلى القرن السابع عشر، واشتهر بتنوعه الذي يعكس تنوع الثقافة في مصر، وكان مرتادوه من جميع الطبقات الاجتماعية، تبدأ بالكادحين والبسطاء مروراً بالمثقفين والفنانين والمشاهير ووجهاء المجتمع، انتهاء بالملك فاروق نفسه. وقد قام المقهى بدور ضخم في الحركة الثقافية في مصر، ومن أشهر مرتاديه عباس محمود العقاد، ونجيب محفوظ، وإحسان عبد القدوس، ويوسف إدريس وغيرهم الكثير من الفنانين والشعراء والمثقفين.
لم تكن ثقافة المقهى أو مقهى الثقافة حصراً على العالم العربي، فالثقافة الغربية ازدهرت من خلال المقهى أيضاً. ويشير موقع (Broun) إلى العديد من المقاهي العالمية التي بلغت شهرتها الآفاق في أوروبا، ومنها مقهى (دي فلوري) الذي تم افتتاحه عام 1890، وكان ساحة ثقافية لكبار المثقفين والكتاب والفنانين، ومن أشهر رواده الشاعر الفرنسي غيوم أبولينير، والفيلسوف جون بول سارتر وصديقته الفيلسوفة سيمون دو بوفوار، والتشكيلي المعروف بابلو بيكاسو، والكاتب الأميركي أرنست هيمنجواي وغيرهم، وكذا الحال في مقهى (بركوب) الباريسي مثل فولتير، وعالم الفيزياء الألماني إلكسندر فون همبولد، وجورج ساند وغيرهم.
أما في روما فكان مقهى (جريكو) مزاراً لكبار المثقفين والأدباء الأوروبيين، ومنهم غوته، فاجنر، ميندلسون، ستندال، ليزست، وكازانوفا.. ربما كانت نكهة القهوة تضفي سحراً مميزاً على الفكر والأدب والفن.
وفي عاصمة الأُنس (فيينا) يعتبر مقهى (سنترال) في عام 1860، المكان المفضل لنخبة من المفكرين والمثقفين منذ إنشائه عام 1860، ومن أشهر مرتاديه: هوغو فون هوفمنستال، أنطون كو، وأدولف لوس، والثوري الروسي ليون تروتسكي.
وفي العاصمة التشيكية براغ اشتهر مقهى (سلافيا) بعدد من الرواد النخبويين منذ افتتاحه عام 1863، ومنهم فرانز كافكا، ريلكه، وسيفريت الحاصل على نوبل للآداب عام 1984.
أما مدينة هامبورغ في شمال ألمانيا، فقد افتتحت أول مقاهيها في عام 1677، إلا أن شهرة المقهى بالنسبة للمثقفين عرفت فيها خلال أواخر القرن العشرين، وتحديداً في عام 1989، بعد افتتاح مقهى بيت الأدب، وهو ما يعرف بالألمانية بـ(Literaturhaus) الذي احتوى على قراءات الكتب لنتاج الكتَّاب من جميع أنحاء العالم، ولقد اشتهر هذا المقهى أيضاً باسم "مقهى الفلاسفة"، حيث يقام فيه أكثر من 90 احتفالية ثقافية سنوياً.
ويبدو أن نموذج مقهى بيت الأدب في هامبورغ، قد اتخذ النموذج المعاصر للمقهى الثقافي في شكله النهائي ونشاطه في أقطار مختلفة من العالم.
ففي ظل العولمة، لسنا خارج هذا العالم، ولن تكون الثورة الهائلة للتواصل الإلكتروني حائلاً دون التواصل الإنساني/الثقافي المباشر، فحاجة الأفراد لوجود طاقات إيجابية مباشرة لعقولهم وأجسادهم تدعوهم للتواجد في مكان يرتاحون فيه، وبالنسبة للمثقف لا يوجد أفضل من المقهى المفعم بنكهة الثقافة.
ونشهد اليوم في المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي، ازدهار المقهى الثقافي كوسيلة تواصلية مباشرة تحفِّز المثقفين على التواصل الفكري والحوار الثقافي كما كان يفعل أسلافهم، في ظل غياب مؤسسات المجتمع المدني، حيث تحول المقهى التجاري من تقديم القهوة وشتى المشروبات إلى ما يشبه الندوات والصالونات الثقافية المنظمة عبر بعض الأنشطة مثل قراءة الكتب ومناقشتها، واستضافة الكتاب والأدباء والمفكرين، مما يتيح أجواء خلاّقة للحوار الممتع والمفيد؛ الأمر الذي ربما يثير الوعي باستثمار المقهى إيجابياً لدعم ثقافة المجتمع في مراحل تكوين شديدة الأهمية على المستويين الفكري الاجتماعي.