اعتدت دائما أن "أثرثر" كثيرا مع سائقي التكاسي عندما أكون بصحبتهم، لأني أؤمن أنهم أكثر الناس معرفة بـ"دهاليز" الحياة بالنسبة للأماكن التي ينتمون لها، ومساعدة لهم في تجاوز عقبات "الملل" من زاوية أخرى.. ولهذا فكرت كثيرا في كتابة سلسلة مقالات تتحدث عن مواقفي معهم، لكنها رُميت في سلسلة (التسويف)!. بيد أني هذه المرة سأفعل، لأن الموضوع شيق، ولأخرق تلك السلة الكبيرة.. أيضا.
هنا الشرقية، وسائق التاكسي من نجد - كما أخبرني - وغادرها منذ 36 عاما، عاملا متنقلا بين الشركات، بعد أن رفضته "أرامكو" لأنه لا يحمل المؤهل (المتوسط)، فغاص في الحياة هنا حتى أدمنها، وصار عاجزا عن التعايش في غيرها، ووصل لقناعة أن المكان هنا هو الأنسب.. يقول إن المعيشة في الشرقية تأثرت بثلاثة عوامل، وهذا التصنيف ينقله عن دكتور (علم) لا دكتور (طب)، كما يصفه، ولا أعلم إذا ما كانت الـ"دكتوراه" وهمية أم لا، تقف مجاورة دول الخليج على هرمها، و"أرامكو" والشركات الأجنبية ثانيها، واختتمها بوجود الفاتن البحر، والذي يؤكد أنه يؤثر في شخصيات الناس كثيرا، ولذا يرى أن أهل الجنوب أكثر (حرارة) لأنهم بعيدون تماما عنه!
وبعد إسهاب.. وفجأة بلا مقدمات، ومن خلال الحديث عن معشوقته "الشرقية"، قرر أن يعقد مقارنة بينها والرياض، وراح يقذف الأخيرة بكل الفوضى، مستدلا بعدة أشياء تفتقرها الرياض.. يقول إن رفض دعوة عشاء في الرياض تلحق بك الآتي: صفة الغرور أو البخل! وهذا لن يحدث هنا.. كما أن التجهم يميز أهلها، والزحمة ديدنها.
.. وعند الإشارة المرورية، وقبل أن أصل لنقطتي المحددة، قال إنني أعرف مواعيد الإجازات من خلال أصوات المنبهات المنثورة عند الإشارات، فأهل الرياض يعبئون الشوارع بالفوضى بمجرد حضورهم، مستدلا بالصمت الذي يحيطنا.. وصلنا وحديثه ممتد، وكثير من حروفه لم تسعها المساحة هنا، فربما أجيء بها لاحقا.. إن لم تزاحمها أحاديث سائق التاكسي "الكولمبي"، عازف الموسيقى، الذي التقيته بباريس، وقال إن الحب أكبر كذبة اخترعتها البشرية.. والسلام.