.. وأما التابع، فهو الذي يذهب خلف آراء الناس دون أن يقرأ أو يعي أو يفهم، بل ودون أن يحاول فعل شيء من ذلك، وليته يذهب خلفها صامتا الصمت الذي يليق بأمثاله ممن لا يمكن لهم الاستقلال برأي، وممن يعجزون عن التجرد من الهوى، لكنه يصر على أن يجهر برأيه غير مكترث بما قد يترتب على ذلك من الظلم.

يقول له أحدهم مثلا: يقولون إن الكاتب فلان الفلاني قال كذا وكذا.. فيذهب إلى "كيبورده" من فوره ـ مستحضرا الصورة النمطية التي يختزنها ذهنه عن ذلك الكاتب ـ ويكتب "قبحه الله.. أنا أطالب بمحاكمته وإعدامه ليكون عبرة لغيره من التغريبيين و...الخ..."، وقد يزيد على القول أقوالا مقولبة صالحة لذم أي إنسان، فيزيد خلفه الآخرون أقوالا مشابهة، حتى تصبح كرة الثلج جبلا جليديا ليس له من الصحة أساس.

ويقول له آخر: إنهم يقولون إن الداعية فلان الفلاني قال كذا وكذا.. فيذهب إلى "كيبورده" قبل أن يقوم من مكانه، ويكتب: "لا يمكن أن يقول الشيخ هذا، وربما قصد كذا وكذا، ولكنها تهمة باطلة لفقها له العلمانيون و...الخ..."، يكتب ذلك دون أن يتثبت أو يتأكد أو يقرأ أو يحاول أن يفهم أو يعرف.

القائل نفسه يقول له: إنهم يقولون إن الكاتب فلان الفلاني يردد الكلام نفسه الذي قاله الداعية.. فيذهب ـ كعادته ـ إلى "كيبورده" قبل أن يرتد إليه طرفه، ويكتب: "وهل يصدر هذا الكلام عن عاقل، لكنها عادة هؤلاء الــــ...الخ...."، وهكذا يفصل المواقف بحسب الشخوص والهيئات والفئات، لا بحسب الأقوال نفسها، مما يجعل أحكامه، وأحكام أمثاله "طيرانا في العجّة"، و"ركضا مع الخيل يا شقراء"، ليكون كما قال الأول:

وهل أنا إلا من غزية إن غوت

غويت وإن ترشد غزية أرشد

ومهما يكن حجم خطل آراء "الطائرين في العجة"، فإنها ـ في إطارها العام ـ دليل على خلل كبير، يترتب على الجهر بها خلل أكبر؛ ذلك أنها تضع أمام المتابعين صورة غير حقيقية للرأي العام، فضلا عن أنها تشف عن مشكلة مركبة، وهي أن الفرد غير قادر على الإيمان بذاته، ومن ثم يكون غير قادر على الاستقلال برأيه، مما يعني العجز عن استثمار العقل، قبل إصدار الأحكام التي ينبغي أن تقوم على معطيات حقيقية، لا على "يقولون"، أو "قيل" أو "قالوا".

ليس مطلوبا من كل شخص أن يصدح برأيه في الشأن العام، وليس من الواجب أن تتحدد مواقف الناس كلهم من الأقوال والأفعال كلها، ولذا فإن صمت "التابع" أجدى له، وأحفظ لماء وجهه، إلى أن يكون قادرا على الفكاك من القيود التي كبل بها نفسه نتيجة ضعف أدواته، وقلة قراءاته، واعتماده على الثقافة الشفاهية التي تعطل القدرة على الاستنتاج، وتجعل المعرفة هشة كهشاشة ما يُبنى عليها.