صادف أن كنت في رحلة عمل لشأن يخص أحد عملائي إلى دبي خلال الأسبوع الماضي، كانت الطائرة مكتظة بالعائلات حتى ظننت أنني الوحيد الذي يقصد دبي ذلك اليوم لرحلة العمل، علامات البهجة والسرور كانت ظاهرة على الكل، ولم يكن ثمة أمر يلحظ غير عدد المسافرين من العوائل حتى أقلعت الطائرة وأطفأ قائدها إشارة ربط أحزمة المقاعد معلنا شيئا من حرية الحركة للجميع في الطائرة، فإذا بالحال يتبدل والأشكال تتغير، فبينما احتفظت بعض السيدات بكامل حجابهن، وجدت كثيرا من الأنقبة التي كانت على الأوجه قد اختفت، كما أن كثيرا من العباءات المسدولة على صاحباتها لم تعد موجودة، وأصبح الرجل يكلم زوجته وابنته بأريحية ويحادثها مباشرة بدلا من محادثتها بكلمة "يا هيه" خجلا من ذكر اسمها.

حتى أكون منصفا يجب أن أبين أن كثيرا ممن خلعن عباءاتهن كن يلبسن لباسا فضفاضا ساترا تحتها، لكنه بلون مختلف غير لون السواد واحتفظن بحجاب الرأس، بينما نزعه البعض ولم تكن ملابسهن بالمستوى الملائم من "الحشمة"، وحين أذكر هذا فأنا لا أذكره من باب اللوم أو من باب الاعتراض سواء اتفقت معه أم لم أتفق معه، ولكنني تساءلت ما هذا الذي أراه دائما عندما تقلع الطائرة إلى خارج الحدود حتى إلى منطقة أقرب إلى الرياض من جدة؟ ما السبب في هذا التبدل في السلوكيات وفي المظهر؟ ربما تكون لدي بعض تصورات خاصة مصدرها الانطباع وليس البحث العلمي الدقيق، مفادها أن هذا الذي نرى في الخارج هو طبيعة التوجه الذي ينتجه فرض القيود القسري على الناس في ملبسهم وطريقة تصرفاتهم وتصنيفهم في صناديق تصنيفية جاهزة من باب التزكية والاتهام بحسب نوع العباءة وطريقة اللبس.

هذه التصنيفات التي نراها في مجتمعنا أعيتنا واستهلكتنا ذهنيا واجتماعيا، حتى أصبح الكثير من أبناء البلد العاشقين له يهربون لأقرب منفذ لممارسة شيء من الـ"أنا الطبيعية" دون الحاجة للتقية الاجتماعية التي يعتنقها الكثير في سبيل الهروب من التصنيف والاتهام.

بالإضافة إلى ما ذكرت فإنني أتساءل ما الذي تقدمه دبي للأسر بأطفالها ولا يمكن أن تقدمه المملكة بكل إمكانياتها واتساع رقعتها وتباين طبيعتها وأجوائها شمالا وجنوبا وشرقا وغربا؟ ولم يكن لدي جواب حتى وصلتني على الـ"فيس بوك" يوم الجمعة الماضي بعض الصور من أحد الأحبة لبعض المتنزهات في المدينة المنورة مكتوب على بابها "الدخول للراشدين فقط"، ثم علق عليها شخص آخر يقول: تذكرت كيف حاول صديق لي في صغرنا أن يقفز من فوق السور للدخول، وتذكرت أيضا كيف منع شخص في سني من دخول السوق لأنه ليس معه عائلة (حدث هذا في الشهر الماضي أي بعد قرار السماح للشباب بدخول الأسواق)، وعند مناقشة رجل الأمن قال: لا تسألني فأنا أنفذ التوجيهات فقط.

دبي لا تقدم إمكانيات إضافية نعجز عنها بما في ذلك ما يتعلق بمطارها وفنادقها، فإجمالي عدد الغرف الفندقية في دبي هو حوالي 85 ألف غرفة فندقية بمختلف الدرجات بينما عدد الغرف الفندقية في المملكة يتجاوز الـ150 ألف غرفة فندقية، لكن الذي تقدمه دبي بقربها منا هو ذلك الهامش من القدرة على ممارسة الحياة دون تصنيف منهجي معين، ودون قيود على الدخول والخروج، بحيث يفرض على الناس طابع معين للتنزه لا يمكن لهم الخروج عنه خوفا من تدخل الغير في نطاق الحرية الشخصية.

مثلي مثل غيري لا نرتضي بعض المظاهر الموجودة هناك التي نتمنى أنها لم تكن ونأمل أن تختفي، وندعو الله ألا تنتقل إلينا عدواها بل نحث الناس على البعد عنها، ولكنني في ذات الوقت أدعو المعنيين إلى إفساح المجال للأسر أن تتنزه دون حواجز وفواصل تمنعها من الاجتماع، وأن نضع التنظيمات والإرشادات اللازمة التي تبين المساحة المتاحة بدلا من وضع القيود المفروضة مثل حظر دخول الحديقة على غير الراشدين.

المملكة هي مهبط الوحي وملتقى حضارات قديمة، ولديها من الإمكانات والقدرات ما يجعلها قبلة سياحية ملتزمة لكل العالم، ابتداء من تلك الجزر المنتشرة على امتداد ساحل البحر الأحمر باتجاه الشمال والتي حلقت فوقها ورأيت بعيني صفاء مائها وجمال طبيعتها بما يجعلها أجمل من المالديف، وانتهاء بآثارها النبوية في المدينة التي نأمل أن تلقى من العناية والتسويق ما يضعها في سياقها الصحيح، وفي المملكة لدينا الجبال الخضراء في الجنوب ولدينا الطبيعة الصحراوية الخلابة، لدينا البحر ولدينا تجمعات المياه والينابيع، لدينا من الآثار ما يكفي لأن يملأ متاحف ضخمة تنافس أكبر متاحف العالم، كل هذا لدينا بحكم الطبيعة وبحكم الموقع والتاريخ والإمكانات المتاحة، وكل ما نحتاجه شيء من التنظيم الحازم الذي يتيح للأسر السياحة الراشدة بتكلفة مقبولة دون تدخل من الغير ودون خوف من التصنيف والتكييف، بالإضافة إلى رفع مستوى الخدمات والخبرات للقائمين على التواصل مع الجمهور لتقديم الخدمات سواء في الجوازات أو في المطارات والمواصلات والفنادق.

هذا كل ما نحتاجه فقط لنرى العالم يهرب إلى السعودية من فوضى السياحة غير الملتزمة في غيرها.