علماء الخطاب Discourse يقولون إن وصول الخطاب يشترط ثلاثة أمور: طريقة بنائه، وتوقيته، ووسيلة إرساله. وللأسف أن صدق الخطاب وعدالة القضية ليسا بين شروط انتشار الخطاب. ولهذا يستغل النشطاء هذه الثغرات ويعملون على توفر الشروط الأخرى. والنشطاء موهوبون في تجميع المؤيدين لخطابهم، فطريقة بناء الخطاب تتم بأسلوب بليغ وفيه جرأة ودغدغة لعواطف المتلقي حتى يتعاطف مع الخطاب أو القضية ويؤيدها. كما أن النشطاء يقومون هم أنفسهم بالتعليق على خطاباتهم بأسماء أخرى ومن حسابات مختلفة فتحت لهذا الغرض حتى يوهموا بقية المتلقين أن هناك مناصرين كُثُرا لقضيتهم فينضموا إليها ويؤيدوها. ويختارون الوقت المناسب الذي يضمن لرسالتهم الانتشار. كأن تكون هناك مشكلة أو خبر يتعلق بالقضية أو بالشخص، فينطلقوا بقوة في بث ما يريدونه حول تلك القضية أو ذلك الشخص، أما الوسيلة فقد وفرتها القرية الكونية التي نعيش فيها في هذا العصر من وسائل التواصل الاجتماعي المساعدة على انتشار أي رسالة بيسر وسهولة.. هنا، بعد توفر هذه الشروط يضمن النشطاء مؤيدين كثرا ويثنون على بعضهم بأسماء مختلفة حتى تشتعل القضية ويكثر مؤيدوها.
لقد شكل النشطاء في جميع أنحاء العالم مشاكل للأفراد والمؤسسات والمجتمعات والدول التي يتناولونها، والمشكلة تتفاقم عندما تكون قضية النشطاء غير عادلة تجاه من يتناولونه وينجحون في تشويه صورته بالباطل، فقط لأنهم أولاً نشطاء ويجيدون فن الطرح ويوفرون له الشروط، وثانياً في غياب جهد يقاوم هجمتهم ويدحض حججهم ويكشف مآربهم، غالباً ما ينجح هؤلاء النشطاء في الوصول إلى ما يريدونه. وقد أثبت الكثير من التجارب أن الأتباع ما هم إلا إمعات يقومون بالتصديق والتعليق والمتابعة، حتى إذا تعمقت في مناقشة أحدهم ترى أنه في واد وما هو مطروح في واد آخر. إلا أن هؤلاء النشطاء نجحوا في ضم صوته واستمالته ووضعه في جانبهم، وضم أعداد توهم المتلقين بواسطة حجم الدعم لهذه القضية أنها عادلة، وأن ما قيل فيها يصل إلى درجة الحقيقة. وعادة ما يلجأ النشطاء مدفوعين بأسبابهم الخاصة إلى استغلال الثغرات والمشكلات التي تطرأ لإخفاء كل ما هو إيجابي بل تحويل كل ما هو إيجابي إلى سلبي، وخذ مثلاً مما سمعناه وقرأناه مؤخراً عندما صدرت ميزانية الدولة.. قيل الكثير حول أن الأرقام كبيرة ولم نر شيئاً.. وعندما أقرت توسعة الحرم النبوي الشريف قيل إن التوسعة تهدف إلى نزع الملكيات.. وعما تم عمله بعد كارثة سيول جدة، وكاد العمل الآن ينتهي في أعمال قنوات صرف السيول إلى البحر والسدود التي تمنع وصول السيول للمدينة فقيل إن المدينة ستغرق عندما تتعرص إلى 2 سم من السيول.. هذا ظلم.. ظلم لأنه كلام لا يستند إلى حقائق.. وظلم لجهود المسؤولين الذين يجب الثناء عليهم في الإنجاز تماما مثل النقد الذي نوجهه لهم عند التراخي، وظلم لجهود الدولة وللإنجازات التي تحققها.. ولأن هناك أخلاقيات لكل عمل فإن للمنابر أخلاقيات سواء كانت مجالس أو مواقع تواصل أو برامج إعلامية أو منابر مساجد.. والقول أمانة.. وعندما نقول، يجب أن نستند إلى شواهد evidences وعندما نقول يجب أن نكون عارفين، وأن تكون لدينا معلومات كافية حول مختلف وجوه القضية التي نتحدث عنها. نعرف يقيناً أن هناك من وسائل الإعلام التي لا يمكن أن تكون ضيفها إذا لم تقل ما تود هي أن تقوله لا ما تود أنت أن تقوله، حتى إنها تقوم "بنفخك" حتى تزيد مما تود هي أن تقوله حتى لو لم تكن لديك دراية بالموضوع، وحتى لو لم تكن خبيراً بالقضية التي تتحدث عنها. ثم إن هناك أحاديث "التكوات" في المجالس والمقاهي التي يتم فيها "نفخ" الذين يمارسون التشويه بأنهم جريئون ويقولون ما لم يستطع أحد قوله.
النقد الموضوعي المبني على شواهد والذي يهدف للمساعدة والتطوير وتسديد السلبيات وإعانة العاملين المخلصين مطلوب، بل أمانة يحملها كل من يستطيع حملها، لكن نقد التشويه وتجاهل الإنجازات وركوب موجة النشطاء الذين يتحركون بأهدافهم ظلم يجب الوقوف في وجهه لصده ومنع تسربه للآخرين، والسكوت على من يتحدث بدون موضوعية وليست لديه شواهد يؤدي إلى مزيد من التشويه، ولهذا يجب التصدي بالمثل لكل من يحاول التشويه.. أولاً بعرض الرأي الذي تؤمن به عندما تتاح لك الفرصة والرد على من يحاول التشويه أو لا يتحدث بموضوعية، هذا على مستوى الأفراد في مواقع التواصل الاجتماعي. كما أن قبولنا لكل ما يصل إلينا على أنه حقيقة يساعد النشطاء للوصول إلى ما يريدونه. وعلى المستوى الرسمي فإن القطاع الذي يتعرض للتشويه يمتلك حق الرد قانوناً من خلال الوسيلة التي تم فيها التشويه. والرد يكون بتفنيد النقاط التي طرحت والرد عليها واحدة تلو الأخرى بالشواهد والأدلة والإثباتات التي تدحض كل شبهة، وتكشف سطحية معلومات وطريقة تفكير الناشط السلبي. هنا سيفكر من يريد التشويه ألف مرة قبل الظهور في أي وسيلة إعلامية، لأنه يعرف تمام المعرفة أنه سيتم الرد عليه بالبراهين وليس عبر القصص الجميلة والكلام البليغ.
وخلاصة القول، أنا مع النقد الهادف الذي يراد به كشف السلبيات بهدف مزيد من الإصلاح ومزيد من التطوير. هذا أمر محمود يساعد العاملين المخلصين ويشد على أيديهم ويدفعهم لمزيد من الإنجازات ومزيد من التطوير.. لكنني ضد التشويه الذي يتجاهل الإنجازات ويتجاوز الحقائق ويحيد عن الحق، هذا التوجه ظلم للمخلصين المنجزين وقد يكون عاملاً مساعدا لبطء الإنجازات وتأخرها، وهو أيضاً ينافي أخلاقيات المنابر التي تتطلب الموضوعية في الطرح والصدق في القول والأمانة في الحكم، إن استغلال ما نتمتع به من مواهب في التشويه واستمالة المزيد من المتابعين وإظهار الباطل على أنه حق بوسائط نجيدها لا يخدم أي هدف سام ننشده، بل العكس هو الصحيح فالاشتغال والإشغال بغير الحق يشوه إنجازاتنا وقد يعيقها. فلنتق الله فيما نقول.