قلنا إن فهم المفكر أو الفيلسوف يتطلب وضعه في سياقه الذي يفكر فيه. في الغالب أن مُنتِج المعرفة يتحرك داخل شبكة من العلاقات الفكرية والاجتماعية التي تمثّل المجتمع المعرفي الذي ينتمي له. داخل هذا المجتمع يناقش المفكر قضاياه التي تشغله، لذا يمكن أن نقول إن الحوار الذي يخوضه المفكر مع أفكار وأحداث وأشخاص هو التعبير الدقيق عن السياق الذي ينتمي له ويمكن فهمه من خلاله. قلنا أيضا إن الخلاف بين جون رولز وأمارتيا سن يمكن فهمه في هذا السياق. السؤال إذن: ما هي شبكة الجوار التي كان ينتمي لها رولز وتلك التي ينتمي لها سن؟
سن كان طالبا عند رولز ومنخرطا في الحوار الفلسفي الذي يجري داخل فضاء "الأكاديميا" الأميركية. سؤال العدالة كان ولا يزال أهم سؤال في الثقافة السياسية والاجتماعية الأميركية. أوسع الحركات في التاريخ الأميركي تحركت تحت هذا الشعار. الاستقلال كان لتحقيق العدالة، والحرب الأهلية كانت لمنع الرق وهو أحد أهم علامات اللاعدالة في التاريخ الأميركي. حركة الحقوق المدنية في الستينات تحركت أيضا تحت مظلة تحقيق العدالة ووقف التمييز العنصري. النقاش الذي انطلق بين الفيلسوفين جون رولز وروبرت نوزك (1938- 2002) في الستينات والسبعينات كان علامة على سيادة هذه القضية على البحث النظري في السياسة والأخلاق في أميركا. سن هنا أحد المنخرطين في هذا الحوار داخل هارفارد وبشكل أوسع وسط الجدل الأميركي. إذا كان هذا ما يجمع الاثنين فما الذي يفرّقهما؟
بشكل سريع ومباشر، الاختلاف يكمن تحديدا في اهتمام رولز بالمحيط الأميركي، تحديدا في كتابه الرئيس "نظرية في العدالة"، بينما يفكّر سن بشكل أوسع في المحيط الدولي، وربما تحديدا في بلده الأم بنجلاديش أو الدول التي تناضل مثلها للوصول إلى مستوى أعلى من العدالة. الطبيعي أن يسأل كل مفكر نفسه باستمرار: كيف يمكن أن يفكر في العدالة للناس الذين يعرف ظروفهم وحياتهم أكثر؟ لا يعني هذا تصميم نظرية تتجاهل الآخرين، بل نظرية تعي الظروف الحقيقية التي يعيش فيها الناس، ويمكن أن تنطلق منها ممارساتهم للبحث عن العدالة وتحقيق شيء منها.
يحكي توماس بوجي، أستاذ الفلسفة والعلاقات الدولية في جامعة ييل، والذي كان رولز مشرفه في الدراسات العليا أن رولز كان مشغولا، في كتابه نظرية العدالة، بالعدالة المحلية في أميركا. الولايات المتحدة الأميركية هي السياق الذي كان يحدد أسئلته ونظريته. يقول بوجي إنه كلما سأل رولز عن المجتمع الدولي وتعميم نظريته دوليا أجابه بأن الموضوع معقد جدا ويحتاج إلى تفكير مستقل. لاحقا في 1993 كتب رولز مقالة بعنوان "قانون الناس"The Law of Peoples ألحقها بكتاب بنفس العنوان توضّح تصوره عن العدالة "الدولية". سن في المقابل مشغول بعالم آخر. ربما العالم الذي لا تسوده فكرة القانون بشكل دقيق ويصعب فيه على الأقل في الوقت القريب الاستناد على مؤسسات يمكن أن تُجري العدالة وتحققها على أرض الواقع.
لنتذكر أن رولز يفكر في أميركا التي حدث فيها، ولو بشكل نسبي معقول، ما يسميه "بالإجماع العام" على مبادئ معينة تمثّل جوهر نظريته للعدالة. إجماع على حرية الجميع ومساواتهم، ولذا كان من الممكن الانطلاق من هذه الحالة لتصوّر نظرية للعدالة. البعض يجادل أن رولز يتحدث في نظريته عما جرى فعلا في كتابة الدستور الأميركي. ما الذي جعل تلك الجماعات المتنوعة في أواخر القرن الثامن عشر تختار أول ديموقراطية دستورية على الأقل في الألفي سنة الأخيرة من تاريخ البشر؟ لماذا لم يقرر أقوى تلك الجماعات استخدام مفهوم الغلبة على البقية، واحتكار السلطة بدلا عن سلطة البريطانيين؟ الكثير يجادل بأن ما حصل فعلا هو أن الديموقراطية الدستورية كانت الخيار الثاني للجميع، وأن توازنا معينا في القوى أدى إلى جعل الخيار الديموقراطي الأكثر أمانا ومنفعة للجميع. هذه الحالة قريبة لحالة حجاب الجهل التي بدأ بها رولز الصورة المتخيّلة لأطراف العقد الاجتماعي. الجميع يجهل وضعه الاقتصادي والاجتماعي مما يدفعه باتجاه إقرار حقوق متساوية للجميع تضمن له على الأقل المساواة.
سن في المقابل يفكر في سياق مختلف. ليس بالضرورة بنجلاديش، بل في مجتمعات واسعة في العالم اليوم لا تزال عقودها الاجتماعية إما تعبّر عن استبداد جماعة أو طبقة على البقية، أو أن هذه العقود مجرد وثائق رسمية لا حظّ لها من الواقع ولا تعبر بأي شكل عن "إجماع عام". في هذه الحالة وفي ظل التعقيدات التي نعيشها قد يبدو خيار رولز مثاليا بالنسبة لسن. الأقرب للواقع بالنسبة لسن هو عمل أصغر من ناحية المساحة ولكنه ممكن من ناحية الواقع، مما يجعل من فائدته أكبر وأكثر فاعلية. العدالة كعمل يومي يقوم بها الأفراد لرفع مستوى العدالة في المحيط الذي يعيشون فيه. سن يفكر في النيجيري أو اللبناني أو التايلاندي أو الكاميروني الذي امتلأ يأسا من إصلاح النظام السياسي بشكل كامل، وأصبح من الأجدى له العمل اليومي لتحقيق عدالة أوسع في فضائه الصغير الذي يتحرك فيه. سن أيضا يفكّر في الجمعيات والمنظمات الصغيرة التي لا تبدأ عملها لتحقيق نظرية مثالية شاملة للعدالة بقدر ما تركّز عملها على تحقيق أهداف محددة تصب في نهاية الوضع لرفع مستويات العدالة. لنفكر مثلا في جماعة من خمسة شباب وشابات في الصومال مثلا، تعمل على تعليم الطلاب القراءة والكتابة. جماعة أخرى تساعدهم على تعقيم مياه الشرب وهكذا. ستكون هذه الجماعة أكثر جدوى من التفكير في حالة عدالة مثالية في الصومال. يبدو أن سن يفكر في عالم المنظمات والجمعيات الأهلية التي بدأت تثبت أنها الأكثر قدرة على تحقيق تقدم في العدالة العالمية من الحكومات التي تفقد فاعليتها ومصداقيتها يوما بعد يوم.