بعض طروحات ودراسات القص في العصر الحديث، تذهب إلى أن السرد العربي كان ظهوره مباغتاً كحقل مجهول الهوية، فاقد المحددات "المؤرخنة" كتشكيل معرفي يبسط سلطته وعبقريته وأصوله ضمن المفاهيم والأدوات والممارسات والقراءات النسقية، ولكن التحليل الاستكشافي التطبيقي يثبت تضليل تلك المقولات في بعدها التاريخي، ورؤيتها المشوشة والمنقوصة، فالملكات الساكنة في أعماق النفس العربية والتجلي المفتوح مع مجريات الحياة ومعطيات الواقع والصراع الفكري والاجتماعي والنفسي والروحي، جعلتها تدون واقعها ووقائعها ولحظاتها التاريخية المنقوعة في أغوار ماضيها البعيد وزمنها المعاش، فالعين التاريخية تحمي وتحصن وتؤكد على أن القص العربي في مخياله السحيق له منابعه وتجربته الإنسانية، سواء ما قبل ظهور الإسلام أو بعده.
يقول إبراهيم صحراوي في حديثه عن السرد العربي القديم "إن الوظيفة الوعظية للسرد كانت دينية، ثم امتزج فيها الدين بالسياسة سيما في القرون التي ازدهر فيها القص، وهي حافلة بالفتن والاضطرابات ومزدحمة بالفرق والتيارات والملل والنحل من كل أفق ونوع سياسياً ودينياً مذهبياً وفكرياً، وهذا لا يعني أن القص قد خمل وفقد ازدهاره فيما تلا القرون المذكورة، بل قد يكون العكس هو الصحيح، إنما فقد أهميته وتركه الخاصة من علماء وفقهاء، فمن محاذير السرد مما يتعلق بالسارد ألا يكون متمكناً من صناعته، محققاً لشروطها ومستوفياً لأدواتها".. وقد أصبح في تلك العصور لكل حي أو مدينة قاص خاص بها كما تقول المصادر، كفردوس بن قيس قاص الكوفة، وأبو رهم لأهل الشام، والمهري لقسطنطينية، وأبو ريحانة في القدس وهو رجل من الأزد، وعبد الرحمن بن أبي عمرة بالمدينة، وعبيد بن عمير وسعيد بن حسان بمكة، وطارق أبو مرة الحضرمي باليمن، وسليمان بن عمر كأول من قص بمصر سنة 38هـ، وعشرات القصاصين في بلاد وحواضر الإسلام، وقد جرى التأكيد على ضرورة ربط القص بالوعظ والإرشاد، بقدر ما نهي عنه أو قيد بشروط تبتعد به قدر الإمكان عن التعسف بالتصرف والكذب والزيادة والنقصان والسؤال والمراء والتكلف، بحثاً عن الوجاهة أو السطوة أو المال التي يوفرها القص أو الرواية، ويرى الدارسون لتلك العصور أن لقب القاص أصبح لقباً عامياً مبتذلاً، بعد انقضاء عصر كبار القصّاص وتفشي الكذب وانتشار الصراعات، مما جعل أبو حيان التوحيدي ينأى بنفسه كما يقول عن القص، رغم اعترافه بما له أي القص من دور تعليمي فلسفي في توليد الأفكار وتقويتها.