شاكر سليمان شكوري
ما تزال عكاظ ـ سوق خالد الفيصل ـ تواصل وثبتها، وترتقي آلياتها حتى قطعت في هذا الزمن اليسير شوطاً بعيداً في الأثر والتأثير، فلنعم الدعم الجليل من خادم الحرمين الشريفين ملك التقدم والتطويرلفكرة الشاعر الأمير، بإحياء هذا المعلم الحضاري الذي غاب طي النسيان لما يزيد على اثني عشر قرناً من الزمان دون ذنب أو جريرة!
ولو أننا أنفقنا أضعاف الجهد والمال والوقت المبذول في هذا الإحياء، في غير طريق كالإعلان والإعلام مثلاً لما تحقق شيء يذكر بالنسبة لما حققه مشروع الإحياء في سنواته الست، من إعادة تقديم الحالة الثقافية والاجتماعية والسياسية التي كانت عليها أمة العرب في عصور كان الكثير غيرها من الأمم على هامش التاريخ، بينما كانت هي أمة التاريخ الذي يكتبه هذا السوق ورواده.
الجميل المبهر أن فكرة الإحياء لم تعمد إلى مجرد إعادة بناء جدران السوق وسقفه وتصميمه وكأنه مجرد واحد من الآثار أعدنا ترميمه ليكون على حاله الأول قبل أن يطمسه غبار التاريخ، بل عمدت الفكرة الشاعرة إلى قيام السوق القديم بملامح وآليات وفعاليات مواكبة للحاضر المعاصر وتقنياته وهو النسق الذي تنتهجه هذه البلاد منذ قاد الإمام الملك المؤسس عبدالعزيزـ طيب الله ثراه ـ حركة تطويرها وتحديثها، بالتوازي والتوازن والمواءمة بين الأصالة والمعاصرة.
تسير إذا حركة إحياء هذا المعلم الحضاري المشرف، ليس لصالح المملكة فحسب بل لكل الناطقين بالعربية أولاً، ثم للعالم كله من خلال مشاركات دولية تأتي من خارج النطاق العربي.
وتتميز هذه الحركة بالوثوب المبني على الدرس والطموح، ومخزون من الدراية المتعددة الألوان من مبدع الفكرة وحامي مسيرتها، ومصداقية فيه قادرة على قيادة الفريق أحيانا نحو المستحيل الذي سرعان ما يتحول إلى واقع مرئي ومسموع، يفاجيء في أحيانه الكثيرة رهانات كل المراهنين.
وبناء على هذه المنهجية، فقد تميزت وثبة السوق السادسة هذا العام بسقف مرفوع الهامة بهذا الإبداع المجدد والمتجدد من هذا الفريق القائم على أمر المشروع، حتى ليحسب المرء أن ما أنجزه الفريق استغرق ستة عقود لا ست سنوات فحسب!
كانت الفعاليات كلها حافلة تتنافس على وقت الرواد، لكني توقفت خاصة عند مسرح الشعر وخيمة النابغة وزمرة العمالقة، وأطربتني لذاذة العربية على ألسنة هؤلاء الفحول دون خطأ واحد من جوقة المؤدين للأدوار.
ثم فوجئت ـ وربما غيري كثير ـ بهذا الشاعر المعاصر الذي ظهر على المشهد في هيئة سعودية تامة، يباري من سبقوه من المشاهير القدامى، الذين نكروه في البدء واستنكروه، وعن السامر كادوا أن يبعدوه، وحين منحوه الفرصة ليغزل غزله أمامهم وهم لِفَشله ضامنون، فاجأهم غازي القصيبي ـ يرحمه الله ـ هذا الشاعر الغريب على نهجهم، المتأخر كثيراً عن زمنهم، بقصيدته المطولة العصماء، حتى كأنها من الحوليات، يحكي فيها بكل الاعتزاز والاقتدار مسيرة هذا الوطن الساكن في الوجدان، وكيف ترقى في غمضة عين من حال إلى حال.
وبالإجماع .. سلّمه النابغة الراية وفاز القصيبي حتى على الرواد، ثم ارتقى برايته إلى خالد الفيصل وقدمها إليه!
والجانب الأكثر إبهارا ـ بنظري ـ في هذه الدراما، هي تلك الرمزية البديعة وقدرتها على الانتشار الواسع، والانسحاب ـ بمنطق وبسلاسة ـ من الرمز المحدود إلى دائرة العموم.
كان الرمز هنا هو انصراف الذهن إلى أن تكريم الفيصل والقصيبي، إنما جاء كون كلا الرجلين شاعراً، لكن هذا الاختيار للشخصين المكرمين، يعيد الذهن أيضاً إلى أن كليهما ليس شاعراً فحسب، وإنما هو ـ في الأساس ـ رائد هام في مسيرة التنمية، أدى واجبه بكل وطنية وإخلاص وإبداع، وما الشعر إلا عارض في مسيرته، ومن ثم فإن الرمز في دوره كشاعر ينسحب بالضرورة على دوره في ارتقاء بلاده، وينسحب التكريم مرة أخرى بالضرورة أيضا إلى كل العاملين المخلصين لرفعة هذه البلاد.