تعيش المدينة المنورة هذه الأيام حدثين متزامنين يمثلان أهمية بالغة. الحدث الأول هو صدور الأمر الملكي بتعيين سمو الأمير الدكتور فيصل بن سلمان بن عبدالعزيز أميراً لمنطقة المدينة المنورة، الذي يمثل تمكين الجيل الشاب الواعي من الحكم الإداري للمناطق، ولا سيما بمنطقة بحجم المدينة المنورة بكل ما تمثله من أهمية دينية وتاريخية عالمية.

وتزخر السيرة الذاتية للأمير فيصل بن سلمان بالعديد من عوامل القدرة والخبرة والإنجاز العلمي، وكذلك الوعي السياسي والثقافي والإعلامي والاجتماعي، فهو الحاصل على درجة الدكتوراه من جامعة عالمية عريقة (أكسفورد) سجل خلالها أطروحته المهمة حول "إيران والسعودية والخليج"، وكان قد عمل لعدة سنوات أستاذاً للعلاقات الدولية بجامعة الملك سعود، كما أن لديه خبرة مناسبة في العمل الاجتماعي عبر المؤسسات الخيرية التي ترأسها، إلى جانب خبرته في مجال الثقافة والإعلام من خلال رئاسته للمجموعة السعودية للأبحاث والتسويق، حيث يتمتع بفكر علمي وإدراك سياسي وثقافي واجتماعي يمكّنه من منصبه الجديد. وقد اتضحت رؤيته العامة في أول تصريح صحفي له بأنه سيبذل كل ما في وسعه لمتابعة الجهود التي تبذلها حكومة خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده الأمين لتطوير مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وجميع محافظاتها.

ينقلنا هذا الحدث إلى الحدث الثاني الأسبق إلى حد ما، وهو اختيار المدينة المنورة عاصمة للثقافة الإسلامية للعام الحالي (2013) من قبل منظمة التعاون الإسلامي في جمهورية أذربيجان عام (2009) ، وذلك بهدف إبراز إسهام المدينة المنورة الديني والثقافي في مسيرة الحضارة الإسلامية، وقد صدرت موافقة خادم الحرمين الشريفين على هذا الاقتراح المقدم من قبل وزير الثقافة والإعلام.

تحتِّم مثل هذه المناسبة المهمة إبراز المدينة المنورة كعاصمة للثقافة الإسلامية، ليس على الصعيد المحلي والإقليمي والإسلامي وإنما على الصعيد العالمي أيضاً، انطلاقاً من كون المدينة مرتكز رسالة الإسلام العالمية، ونواة للحضارة الإسلامية التي يقرُّ العالم بدورها في صناعة حضارة بشرية متقدمة خلال ما يسمى بعصور ازدهار الثقافة الإسلامية.

وتتميز المدينة المنورة منذ فجر التاريخ الإسلامي حتى يومنا هذا بكونها مهد الثقافات المتعددة، حيث وفد إليها جماعات وأفراد من مختلف الثقافات والشعوب، إما للعمل أو للزيارة والمجاورة، مما مميزها بالاحتواء والتعددية والتعايش بين مختلف مكونات مجتمعها خلال فترات تاريخها، مما يجعل إبراز هذه الظاهرة أمراً مهماً على المستوى الاجتماعي والفكري والثقافي.

لم تمثل المدينة المنورة طوال تاريخها فكراً واحداً منغلقاً على ذاته، كما لم تكن مجرد شريحة اجتماعية واحدة يذوب فيها كل من يدخل دائرتها، إنما كانت طيفاً ثقافياً واسعاً متعدداً كألوان قوس قزح بما يجسده من جمال وتناسق؛ وهذا ما يجعل حجم هذه المناسبة وأهميتها يستلزم استحضار مفهوم الثقافة في (علم الإنسان)، حيث تشير مكونات الثقافة إلى عناصر عديدة تنبع من الفكر المجتمعي كالآداب والفنون والعادات والتقاليد.. بينما يشير مفهوم الحضارة إلى المنجزات المادية.. وهذه المزاوجة تجعل فرصة المناسبة أكثر ثراء.

وعلى الرغم من أهمية وجود بنية تحتية مترافقة مع حجم المناسبة، تأتي أيضاً ضرورة صيانة إرث المدينة التاريخي ومعالمها الأثرية عبر استراتيجية تضمن المحافظة على ما بقي، والبحث عن إيجاد تصور لما فُقد؛ لأن الأجيال اليوم بحاجة للاطلاع على جوانب التاريخ العريق للمدينة من كافة زواياه التي تبرز ضخامة الإرث الحضاري الإسلامي الذي اضطلعت به، كونها نواة هذه الحضارة وأول عاصمة لكيان سياسي واجتماعي إسلامي.

وبقدر ما تمنحه هذه المناسبة من فرصة كبيرة للمعرفة واستحضار التاريخ والحاضر معاً، تأتي الأهمية لتضافر الجهود بين الثقافة من جهة والإعلام من جهة أخرى للقيام بعملين منفصلين يتحدان في مصلحة هذه المناسبة لتظهر بوجه مشرق غير تقليدي يليق بالمدينة المنورة، وذلك من خلال تفعيل الثقافة بجانبيها النخبوي والشعبي، بحيث ترتكز النخبوية على ما يهم النخبة كالندوات والمحاضرات الثقافية والتاريخية والدراسات المتخصصة، وترتكز الثقافة الشعبية على المنتج الثقافي لمجتمع المدينة بكل ما فيها من إبداعات ثقافية معنوية ومادية، ويكون دور الإعلام محورياً في نشر هذه الثقافة وصياغة الرأي العام تجاهها.