دائما تكون هناك مشكلة من نوع ما، تدركها مجتمعاتنا وتكابد مشقاتها، لكنها تتواطأ على وضعها في نطاق المسكوت عنه. وأحسب أن الناس في أنحاء متفرقة من عالمنا العربي لا يعبرون في الغالب عن مشاعرهم الحقيقية.. إنهم في أفضل الحالات لا يكذبون تماما، كما أنهم لا يقولون الصدق، ومع ذلك يتداولون الأحلام كما لو أنها أقراص باندول، ويضحكون كثيرا، وفي دخائلهم فيض عارم من البكاء.
حسناً، ها نحن نصوغ مكابراتنا ونذهب إلى المخاتلة، باعتبارها واجباً تمليه العادة وتفرضه طبائع العجز عن إنجاز ما نعتقده واجب الآخرين تجاهنا. قيل لنا إن الرجال لا يبكون، وإن هذا فقط ما ينبغي على النساء القيام به، ولهذا نتملق الأحداث ولا نحسن صناعتها، وحين نبدو جادين في تحريك عجلة الانتقال إلى محطة جديدة تعترينا حالة التعثر بداية الطريق أو منتصفه! كم هو سيئ وبشع إذا تحملنا أمثال وحكم العصر الجاهلي على الظهور خلافا لما نحن عليه في الواقع.
سوف أسأل، إن كانت أوضاعنا العربية والإسلامية الراهنة على أفضل حال حتى تكون معظم اهتماماتنا حكرا على أحداث السقيفة وواقعة الجمل ومفاصلات الفتنة الكبرى!
لست أدري إن كان في تاريخنا المعاصر فرصة للإفلات من قبو الماضي، من مخافر الكائنات الهلامية، من الأحصنة الجوفاء التي تحدوها كبوات فارس يعتمر الهزيمة قبل امتطاء صهوة الجواد المطهم بالغثاء.
في أضابير التاريخ انكسارات قاسية عاشتها أمم ليس لديها رصيد حضاري يماثل ما في سجل الأمة العربية والإسلامية من إشراقات معرفية ثرية، غير أنها امتلكت الإرادة الحية وخاضت مغامرات القفز إلى الأمام، متجاوزة كل البدائل السيئة التي يوفرها الماضي بعاداته ومردداته وشخوصه.. وخلال فترات متوسطة المدى كانت تلك الشعوب قد أعادت اكتشاف ذاتها واختارت المستقبل عنوانا عريضا لميلادها المصيري المتجدد، لكن ماذا عنا ؟ ومتواليات النكوص تضرب أطنابها على مختلف الأنحاء، وما نكاد نخلص من نكسة إلا وعدت علينا أخرى أكثر ضراوة وأزرى حالاً وأوجع مآلاً.. جربنا شتى الأنماط الخاصة بنظم الحكم.. الملكيات بمختلف مستوياتها، والجمهوريات بكل مقاساتها.. استقبلنا الأفكار الوافدة وبهرتنا ترسانات الإيديولوجيا اليسارية والقومية والدينية والشوفينية (الدوغما).. جربنا الثورات والانقلابات والأحلاف على تنوعها وتعدد موضاتها، لكننا لم نختبر مصداقية أي منها، نظراً لعطب معامل التقويم وإدارة المؤسسات الرقابية بوسائط صراعية تحترف الإعاقة وتقتحم المشهد السياسي العام كلما نضجت فكرة أو استوت ثمرة على سوقها.
ولا ريب أن الخجل من مواجهة المعضلات والتعود على ترحيل مشكلات الواقع وتقسيط الحلول، إلى جانب ترويض الشعوب على مداهنة الأخطاء تجعل عملية التحول التاريخي شكلا من أشكال التزوير الممنهج لإرادة الشعوب، وعملاً من أعمال الزهايمر الذي يستهدف عقل وفاعلية الإنسان، ونتيجة لذلك يصبح الارتداد إلى الخلف احتمالاً مرجحاً، لتفقد الجماهير ثقتها في التغيير وتجرفها الانحرافات المتعارضة مع خط الثورة إلى نسيان حاجاتها من الفعل الثوري، وهو الأمر الذي يضطرها للتشيؤ، ويجبر قطاعات شعبية واسعة للانتقام من الروابط القيمية الجامعة واللجوء إلى خيارات عصبوية ونزعات انفصالية، والارتباط بمشاريع صغيرة تتغذى على الانقسام والكراهية والتطرف بما هي ممكناتها في مقابلة اليأس من إحداث التغيير الجذري ومواجهة البدائل السيئة التي أفرزتها بعض ساحات الربيع العربي المهدد بالانقراض.
تُرى.. أي شيء يمكن القيام به لإنقاذ رسالة التغيير في بلدان الربيع العربي؟ وهل ما زال الوقت مناسباً لتصويب المسار وتقرير المضامين الناضجة لما أطلق عليه ثورات!؟ ما الذي يتعين عمله لترجمة شروط التحول التاريخي؟ وهل يحتاج الأمر إلى ولادة قيصرية تنجز مهام التغيير الذي يحقق مصالح الشعوب بدلاً عن تسويات النخب؟ وما العمل إذا تعذر الإنقاذ وأوصدت نوافذ الأمل؟ ومتى تبدأ مكاشفاتنا مع قوى الإعاقة حتى وإن لبست قناع الثورة وأخمدت بريق التغيير؟