الانتخابات البرلمانية الإسرائيلية التي انعقدت في 22 يناير الماضي قدمت عددا من المفاجآت غير المتوقعة للمتابع للشأن الإسرائيلي الداخلي، خاصة وأن إسرائيل تحتل منذ فترة واجهة المشهد الإعلامي والأكاديمي العالمي لعدة أسباب، لعل أهمها العلاقة شبه المتوترة بين بنيامين نتنياهو وباراك أوباما، إضافة لوضع إسرائيل في المنطقة في ظل الربيع العربي وتعطل عملية السلام التي يلفظ فيها حل الدولتين أنفاسه الأخيرة، كذلك التصعيد السياسي والإعلامي الإسرائيلي ضد إيران.
تحدث الكثير من المراقبين عن المفاجأة التي حققها اليسار الإسرائيلي من خلال فوز أحزابه بنصف مقاعد الكنيسيت تقريبا (59 مقعدا من أصل 120)، ولكن المفاجأة لا تكمن في عدد المقاعد التي حصدتها أحزاب اليسار ويسار الوسط (فقد حصلت الأحزاب اليسارية على 55 مقعدا في انتخابات 2009) ولكن تكمن المفاجأة في تحقيقهم لهذا الفوز في ظل غياب كل القيادات اليسارية القديمة والمعروفة عن المشهد، وفي ظل سيطرة الخطاب اليميني المتشدد على المجتمع الإسرائيلي خلال الفترة الماضية. الملفت في الانتخابات الإسرائيلية هذه المرة هو تشكيلة الأحزاب الفائزة ونسبها، وهو ما يحمل الكثير من المعاني حول التغيير الحاصل في إسرائيل من الداخل على عدة أصعدة.
نتائج الانتخابات أشارت لتصدر كتلة حزبي (الليكود-إسرائيل بيتنا) بقيادة كل من نتنياهو ووزير الخارجية ليبرمان للسباق بـ31 مقعدا، يليهم الحزب الجديد "يش عتيد" (هناك مستقبل) بقيادة يائير لابيد بـ19 مقعدا، ثم حزب العمل بقيادة شيللي يحيموفيتش بـ15 مقعدا ثم الحزب اليميني المتطرف "البيت اليهودي" بقيادة نفتالي بينيت بـ12 مقعدا.
الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة تكشف وجود عدد من التحولات داخل إسرائيل، من الجدير التنبه لدلالاتها وانعكاساتها ومن ثم دراسة تأثيرها على الواقع العربي، وبالأخص مسار القضية الفلسطينية. وفيما يلي عدد من النقاط الأولية التي تتعلق بقراءة نتائج الانتخابات:
1- نتنياهو ما كان ليتمكن من تحقيق فوز لحزبه لولا تحالفه القوي مع ليبرمان وقاعدته من اليهود ذوي الأصول الروسية التي يمثلها حزب "إسرائيل بيتنا"، وفي واقع الأمر خسر الاثنان في هذه الانتخابات حيث شكلت كتلتهما ما مجموعه 42 مقعدا في انتخابات 2009، ما يعني خسارتهما لـ11 مقعدا في هذه الانتخابات. النخبة السياسية القديمة برمتها فشلت، فحزب "الحركة" الجديد الذي أسسته وزيرة الخارجية السابقة تسيبي ليفني لم يحقق سوى 6 مقاعد بينما حزب كاديما الذي أسسه شارون والذي كان أكبر أحزاب برلمان 2009 من حيث عدد المقاعد خسر 26 مقعدا ليحقق مقعدين فقط في هذه الانتخابات بقيادة شاؤول موفاز.
2- في مقابل هذا فإن الأحزاب الثلاثة الحاصلة على أكبر عدد مقاعد بعد كتلة نتنياهو جميعها تتمتع بقيادات شابة وخطابات سياسية جديدة، فكل من يائير لابيد وشيللي يحيموفيتش ونفتالي بينيت يعدون لاعبين جددا على المشهد السياسي الإسرائيلي، ما يظهر أن المجتمع الإسرائيلي يسعى لتغيير جلد قياداته. إضافة لهذا – وعلى عكس المتوقع – دفع الإسرائيليون بسياسيين جدد ليسوا ذوي خلفية عسكرية وهو ما يعد تغيرا جذريا في هيكل السياسة الإسرائيلية.
3- أثبتت هذه الانتخابات أن الإسرائيليين يهتمون كثيرا ويتأثرون بموقف الولايات المتحدة منهم، فخطاب نتنياهو-ليبرمان تسبب في واقع الأمر في خسارتهم لـ11 مقعدا مقابل صعود حزبي المستقبل والعمل، وهما حزبان يتبنيان خطابا يعتمد على إعادة إطلاق عملية السلام وتحسين العلاقة مع الولايات المتحدة. هذه النتائج يمكن اعتبارها من جهة تصويتا ضد نتنياهو وطريقة إدارته للعلاقة مع أميركا التي يرى الإسرائيليون أنها لا تزال الراعي والضامن الأول لأمنهم واستقرارهم.
4- أظهرت النتائج وجود انقسام إسرائيلي كبير فيما يخص السلام مع الفلسطينيين، فكتلة نتنياهو-ليبرمان هي من عطلت عملية السلام التي حاول الأميركيون إحياءها في 2010، إضافة لذلك فإن حزب "البيت اليهودي" الذي حل رابعا أعلن زعيمه نفتالي بينيت معارضته للسلام وتأييده للاستيطان، ودعا لضم الأراضي الفلسطينية المحتلة رسميا للدولة الإسرائيلية وبشكل نهائي، في مقابل هذا قامت حملتا كل من حزبي المستقبل والعمل على أساس العودة للمفاوضات وعملية السلام مع الفلسطينيين. تساوي الطرفين في عدد المقاعد تقريبا هو دليل على انقسام الشارع الإسرائيلي بين طرفي نقيض سياسيا.
5- أظهرت النتائج حجم الانقسام في الاهتمامات الإسرائيلية الداخلية، ففي حين ركز نتنياهو خطابه على مسألة إيران والتهديد الأمني لإسرائيل نتيجة الربيع العربي، فقد حقق كل من لابيد ويحيموفيتش نجاحهما اعتمادا على خطاب اقتصادي في المقام الأول، وهو ما يوضح تغير المزاج الإسرائيلي نوعا ما أو حجم الثقل الذي باتوا يولونه لاقتصادهم خاصة في ظل الأزمة التي يعاني منها مقابل قضايا الأمن والسلام.
6- يحتاج أي رئيس وزراء إسرائيلي لتحالف يمثل 61 مقعدا من أجل تشكيل حكومة. في انتخابات 2006 حقق حزبا كاديما والعمل ما يقرب من 50 مقعدا، وشكل أولمرت على إثرها حكومته ذات الغالبية اليسارية، وفي 2009 حقق حزبا الليكود وإسرائيل بيتنا 42 مقعدا وبالتعاون مع أحزاب متشددة كحزب شاس تمكن نتنياهو من تشكيل حكومته ذات الغالبية اليمينية. اليوم تظهر النتائج انقساما حادا، فكل من اليسار أو اليمين لن يتمكن على الأغلب من تشكيل حكومة تعكس توجهاته، بالتالي سيتطلب تشكيل الحكومة الإسرائيلية القادمة تشكيل تحالف على الأغلب بين نتنياهو وكل من يائير لابيد ونفتالي بينيت، وهو ما يعكس حكومة ذات طيف سياسي عريض ستكون ضعيفة وائتلافها هش نتيجة التباين الكبير بين أحزابها فيما يخص السياسات العامة.
مع كل انتخابات إسرائيلية تبرز لعبة أرقام من أجل تشكيل ائتلاف يمثل 61 مقعدا يحق له تشكيل الحكومة، بما يتضمنه هذا الأمر من توزيع المناصب الوزارية على ممثلي الأحزاب المشاركة في الائتلاف إضافة لتقديم تنازلات سياسية لتوفيق المواقف بينهم. ما تبرزه هذه الانتخابات هو انقسام المجتمع الإسرائيلي من الداخل بشكل كبير، انقسام بدأ بفشل الأحزاب في حل عدد من المسائل العالقة في برلمان 2009 كموضوع تجنيد الشباب الأرثوذكس المتدينين (وهو ما تطالب به الأحزاب اليسارية وتعارضه الأحزاب اليمينية) وكذلك موضوع الاستيطان والسلام (وهو ما تتشدد فيه الأحزاب اليمينية وتعارضه الأحزاب اليسارية التي تريد إصلاح العلاقة مع الولايات المتحدة من خلال العودة للمفاوضات)، إضافة للخلاف الكبير داخل الكينيست حول إقرار ميزانية 2013 وهو ما مثل القشة التي قصمت ظهر البعير.
هذه الانتخابات التي جاءت نتيجة دعوة مبكرة لعقدها ـ حيث كان من المفترض أن تعقد في أكتوبر 2013 (الدورة البرلمانية للكنيسيت أربع سنوات) ـ كانت وسيلة لهرب السياسيين الإسرائيليين من الاستحقاقات التي تمليها قواعدها عليها، وكان أمل نتنياهو هو أن تشكل دعوته المبكرة لإجراء الانتخابات مع استثمار الهاجس الأمني وسيلة لتحقيق أغلبية مريحة تخرجه من المأزق السياسي القائم نتيجة انقسام الإسرائيليين. نتيجة هذه الانتخابات تعزز من الانقسام الإسرائيلي أكثر، وهو ما ينبئ أن برلمان 2013 سيعكس مزيدا من الاستقطاب والتنازلات غير المريحة للأحزاب، ما سينعكس بالتالي بشكل سلبي على سياسة إسرائيل الخارجية خاصة علاقتها بالولايات المتحدة وبمحيطها العربي ومسار القضية الفلسطينية. (للحديث بقية)