في أوائل هذا الشهر نشرت مصلحة الإحصاءات العامة والمعلومات إحصاءات سوق العمل في المملكة خلال العامين الماضيين. وتُظهر هذه الإحصاءات أن معدل البطالة في ارتفاع مستمر، متجاوزاً 12%، وهو أعلى معدل للبطالة في تاريخ المملكة الحديث.
ومما يبعث على الدهشة في هذه الظاهرة أن ارتفاع معدل البطالة يرتفع على الرغم من النمو الاقتصادي السريع الذي تمر به المملكة، وعلى الرغم من الجهود المعلنة لوزارة العمل لتحقيق مستويات أفضل في توطين الوظائف. ومجرد نشر الإحصاءات الرسمية الخاصة بالبطالة أمر محمود، حيث كان نشر آخر تقرير رسمي عن الموضوع في عام 2009، وإن كانت هناك تقديرات مختلفة ومتضاربة أحياناً من بعض الجهات الحكومية الأخرى عما وصل إليه معدل البطالة، وهناك اجتهادات كثيرة من الباحثين أيضاَ عن مستوياتها.
وكما يذكر القارئ فإن إحصائيات البطالة حينما نشرت في عام 2009 أثارت موجة من الاستغراب بسبب ارتفاع معدل البطالة حينذاك إلى 10.5% لأول مرة في تاريخ السعودية. وقُدر عدد العاطلين عن العمل وقتها بنحو 450 ألفا. أما الإحصاءات الجديدة التي نشرتها مصلحة الإحصاءات العامة والمعلومات في شهر يناير 2013، فإنها تُظهر أن معدل البطالة قد تجاوز 12% في النصف الثاني من عام 2012، وارتـفع عدد العاطلين إلى نحو 603 آلاف، أي بزيادة 34% عن عدد العاطلين في عام 2009.
وحينما يصل معدل البطالة إلى هذه المستويات، فإنك تتوقع أن يكون مصاحباً بكساد أو ركود اقتصادي، ولكن الواقع خلاف ذلك، فقد تضاعف حجم الاقتصاد السعودي، إذ ارتفع حجم الناتج المحلي الإجمالي، حسب البيانات الرسمية، من 1384 مليار ريال في عام 2009، إلى 2727 مليار دولار في عام 2012، أي بزيادة 97%. ولكن هذه الزيادة الضخمة في حجم الاقتصاد لم تسهم في السيطرة على البطالة أو تخفيضها على الرغم من الجهود الحثيثة من قبل وزارة العمل لزيادة توظيف المواطنين. ويُظهر تقرير المصلحة بعض خصائص هذه الظاهرة التي أصبحت مزمنة ومستعصية على الحل حتى الآن، ومنها:
- أن الرجال يشكلون حوالي 40% من إجمالي العاطلين، في حين تشكل النساء نسبة 60% منهم.
- أن مشكلة البطالة تخص الشباب بالدرجة الأولى، فحوالي 75% من العاطلين تتراوح أعمارهم بين (20-29) سنة.
- لا يعمل من السعوديين سوى الثلث. فحسب بيانات المصلحة، يشكل المشتغلون السعوديون (في جميع القطاعات) نسبة 34% من إجمالي المواطنين ممن هم في سن العمل، أما النسبة المتبقية 66% فهم لا يعملون.
- أن المشتغلين السعوديين أصبحوا تحت ضغط متزايد لإعالة أقاربهم الذين لا يعملون، فهناك نحو 4.4 ملايين مواطن فقط يعملون، من أصل نحو عشرين مليوناً، أو ما نسبته 22% من إجمالي السكان، مما يعني أنهم يساهمون في إعالة بقية السكان (15.6 %) الذين لا يعملون. فماذا حدث منذ عام 2009؟
حسب النظرية الاقتصادية من المفروض أن تكون ظاهرة البطالة قد اختفت مع النمو الاقتصادي الباهر الذي حدث في السنوات الثلاث الماضية، فمدّ البحر العالي (كما يقول أهل الاقتصاد) يرفع جميع القوارب، ووفقاً لتلك النظرية فإن ما يُسمّى بـ(اليد الخفية) للاقتصاد، تضمن أن النمو الاقتصادي الكُلّي المرتفع سيُترجم تلقائياً إلى معدلات أعلى للتوظيف، وبالتالي معدلات أقل للبطالة، ولكن، وكما رأينا في بيانات المصلحة، فإن هذا لم يحدث، بل زاد عدد العاطلين بنسبة 34% وارتفع معدل البطالة من 10.5% إلى 12%.
ويبدو أن تلك اليد الخفية المفروض أن تؤدي عملها السحري في النظرية الاقتصادية، وفي معظم الاقتصادات الأخرى، قد فقدت قدراتها السحرية. ويعتقد كثير من العاطلين عن العمل أن ثمة عوامل أكثر قوة قد عطلت تلك النظرية ومنعت اليد الخفية من العمل لصالحهم. وأول تلك الأسباب سياسة الاستقدام التي لا ترتبط بمدى توفر المواطنين لشغل الوظائف الجديدة التي تتوافر مع النمو الاقتصادي، حيث يوجد الاقتصاد السعودي نحو 200 ألف وظيفة سنوياً.
وثاني الأسباب هو أن الجامعات والمعاهد الفنية لم تواكب احتياجات سوق العمل المتجددة، ولم تهيئ خريجيها لشغل الوظائف الجديدة الفنية وشبه الفنية، ولهذا يبدؤون بحثهم عن العمل من نقطة ضعف.
وثالثها ارتفاع توقعات السعوديين بالنسبة لما يمكن أن يوفره سوق العمل من فرص ومزايا، يقابله تفضيل أصحاب الأعمال توظيف الأجانب الأقل تكلفة.
والسبب الرابع أن معظم السعوديين يفضلون العمل الحكومي، على الرغم من محدودية النمو في القطاع الحكومي، ويفضلون الانتظار فترات طويلة للحصول على عمل حكومي، بدلاً من قبول عمل في القطاع الخاص بمرتب منخفض يتطلب ساعات دوام طويلة ولا يوفر أماناً وظيفياً كوظائف القطاع الحكومي.
وبسبب هذه التناقضات، فإنه ليس من الغريب أننا نواجه مرة أخرى تحدي البطالة الذي أصبح مزمناً ومستوطناً، ويزداد علاجه صعوبة مع مرور الوقت، كما تُظهر بيانات مصلحة الإحصاءات التي نشرت هذا الشهر.