الحديث عن الطقس، حوار تعودت عليه منذ أن اغتربت عن أرض الوطن.. فهو الموضوع الذي يبدأ به البريطاني محاولاً أن يكسر الجليد لبدء الحديث معك. أيضاً هذا الحديث يتضمن أحد الأسئلة الحاضرة بقوة عندما أتحدث مع أحد أفراد عائلتي أو أصدقائي. وكما يبعث المطر مشاعر متضاربة كانت كلماتي لهم كذلك. فعندما يعرف البريطانيون أنني آتية من بلد حارة وقليلة الأمطار يستغربون الكآبة التي يجلبها لي المطر، وترسم علامات الدهشة على وجوههم ويقولون: نحن يزعجنا المطر لأننا مللناه لكن أنت آتية من بلد مشمس! ألم تشتاقي للمطر؟ وعلى الجانب الآخر أصدقائي وعائلتي عندما يكون ردي على سؤالهم بأن الجو تعيس وكئيب تبدأ نبرات التعجب وجمل التمني والتغزل بالمطر.. فمنهم من يتغنى بأغنية فيروز "شتي يا دنيي .. تـيزيد موسمنا ويحلا" كنوع من التهكم، وأنني بنعمة لا أشعر بقيمتها.

أتفهم تماماً ما للمطر من مكانة خاصة في مجتمعنا منذ القدم، فلطالما كان ملهم الشعراء والكتاب وكم تغنى به الكبار قبل الصغار، فهو عنوان للفرح والمحبة، يغسل الحزن والكآبة من القلوب كما يغسل ويروي وجه الأرض في مفهوم وعرف المجتمع. فمن إجلالهم للمطر سموا أولادهم بأسمائه غيث، رهام، هتان، وسم، ديمة.. ولا ننسى الأهازيج الشعبية عن المطر التي تغنى بها الناس صغاراً وكباراً: "يا ربنا عطنا المطر ونعيد ومن الفقع نجني ومن الجراد انصيد".. "صبت المطر يا ورده.. وأحمد في السوق.. يا ورده.. يبيع الفول.. يا ورده.. بثلاثة قروش.. يا ورده.. مطر وسيل يا الله.. تسقينا الغيم يا الله... ارحم عبيدك يا الله.. عبدك عطشان يا الله.. إذا سمع الرعد يصوت الأطفال عليهم.. كسر رجليهم".

"ويا مطره صبي صبي.. على قريعة بنت.. أختي.. بنت أختي جابت.. ولد سمته.. عبد الصمد.." "المطر جانا ورش معزانا… أصبحت ولد ونتلاباها"..

هذه ليست الأهازيج الوحيدة، فهي جزء بسيط من مضمون التراث عن المطر، فكلمة المطر لها مكانة مهمة في أبيات الشعر والذاكرة الشعبية، حيث قيل عنها الكثير، ليست فقط وصفا مجردا لقطرات المطر المتساقطة من السماء، بل أصبح المطر يصور ويجسد حالة عاطفية إنسانية مثل الحب والغربة والعزلة في بعض الأحيان، لارتباطه بقصص اللهفة والشوق والانتظار لقدومه.

فأنا أتفهم كل هذا، لكن جيلي أو جيل آبائي لم يتفهم حقيقة مشاعري، بأن المطر هو دموع السماء، هو عبارة عن بكائها، كنت أستشهد دائماً بقصيدة بدر بن عبدالمحسن "صوت المطر.. كنه تعاتيب خلان" أو بدر شاكر السياب عندما قال: "أتعلمين أي حُزن يبعث المطر؟ وكيف تنشج المزاريب إِذا انهمر؟ وكيف يشعر الوحيد فيه بالضّياع؟ بلا انتهاء – كالدَّم المراق، كالجياع، كالحبّ، كالأطفال، كالموتى – هو المطر"!

رغم فشل كل محاولاتي المستميمة بشرح مشاعري إلا أنني أفشل في كل مرة.. فهل ستفشل محاولاتي بشرح ما يبعثه لي المطر مع الجيل الذي شهد أمطارا كارثية؟.