لا يمكن لأي ديمقراطية في العالم أن تتشكل بمعزل عن وجود العقل الجمعي، الذي يُعتبر منطقياً أدنى العقول ذكاءً وحيوية، نتيجة خلوه من عبقرية التفكير الإبداعي الحر، فالعقل الجمعي يبحث بشدة عن الحلول التوافقية والنقطة الأقرب التي تحقق هدف التراض والتوافق، بغض النظر عن قوة وأبعاد صحته، أكثر من تركيزه البحثي عن الجوانب الابتكارية ذات المساحات الواعية اللامحدودة في الضمير الإنساني.

وعلى الرغم من ذلك تبدو العملية الديمقراطية دونه مفرغة من معناها، وبعيدة عن نواياها الأخلاقية كثيراً، ما يعني خروجها عن مفاهيمها الاجتماعية، التي ترى في التوافق الاجتماعي الجماعي هدفاً ترتضيه وتقبل به كل الأطراف المختلفة. ويشرح عالم الاجتماع الفرنسي (إميل دوركايم) وهو واضع نظرية العقل الجمعي في تعريفه نصاً بقوله: "هو التمييز بين التصورات الفردية والجماعية في بيئات ثقافية واجتماعية مختلفة، والتي لا تصلح للتعميم زمانياً أومكانياً، وبين تلك التصورات الفردية والجماعية التي تراكمت في الذهن مع مرور الأجيال، لتؤثر في سلوكياتهم بمعزل تام عن وعيهم". ونظرية العقل الجمعي هي إحدى نظريات علم الاجتماع، التي تبحث في طريقة تفسير تحرك الجماهير، أو المجموعات تحت تأثير العامل النفسي، والذي يحدده الناتج العام للمجموعة وليس الفرد. والمحكوم أحياناً بمجموعة من التراكمات المكونة لما يُطلق عليه التراث. وهو التراكم التاريخي الذي تشكله مجموعة العادات والتقاليد. ويرسم بالتالي شكل التكوين النهائي لعقل المجموعة بأكملها.

ويعد علماء الاجتماع وعلماء النفس العقل الجمعي أحط أنواع العقول. إذ تسيطر عليه وتدفعه إلى قبول خياراته قوة حركة القطيع، وتذهب مطالبه إلى مستويات قوية الحجة ذات سقف عالٍ في البدء، لكنها سرعان ما تنحدر إلى مطالب لا تخرج عن مستوى المطالب المرضية للجميع –رأي القطيع-، أي المستويات الأقل ذات المعدلات الأدنى، وهو ما تؤكده الأحداث التاريخية قديماً وحديثاً أيضاً. والسبب في ذلك هو نزول حالة الذكاء الابتكاري إلى مستوى يتسق مع مستويات بقية الأفراد في المجموعة الجماهيرية، بغض النظر عن مستوى ارتفاع الذكاء من عدمه، ليصل إلى منطقة التحرك اللاشعوري المدفوع بقوة الحركة الجماعية للقطيع. وبالتالي فقدان الكثير من التطلعات والآمال والأحلام والمستقبلية لكل فرد على حدة.

ويقع العقل الجمعي في الغالب تحت تأثير وسيطرة مجموعة العادات والتقاليد والقيم التي نشأت عليها المجموعة، حتى وإن كانت خاطئة، فتلك في النهاية لا تشكل له إلا ملاذاً يستطيع أن يلجأ إليه في حال تعذر الوصول إلى نوع جديد من المستقبل. وهي نقطة قد تكون نقطة الغضب التي انطلق منها التحرك الجماهيري في الأصل، ولا يرى مشكلة في العودة إليها حينما توصد أبواب التغيير أمامه. بل إنه يرى في العودة إلى تلك التراكمات التاريخية العتيقة، حلاً يمكن من خلاله الوصول إلى الطريق الصحيح –كما يرى-. لكنه في الواقع لا يختار إلا ما أُجبر عليه، أو ما أجبرته الظروف المحيطة على القبول به. ويبدو التوافق كبيراً بين منهج الديمقراطية ونظرية العقل الجمعي، في الجزء الأول من نص النظرية، والذي يرفض الاعتراف بإمكانية تشكيل نظم أو تصورات أزلية ثابتة للمتغيرات (الزمكانية). بينما تتناقض تناقضاً كلياً مع جزئها الثاني، بل وترفضه، والقائل باعتماد التراكم التاريخي كثوابت لا يمكن الخروج عليها، والموصوفة بالمسلمات الاجتماعية لا العقلية، على الرغم من قبول المنهج الديمقراطي بها! من هنا يمكننا القول بقبول نتائج العقل الجمعي عند الجمهور الديمقراطي، بحسب الظروف المحيطة بالعملية الديمقراطية، وليس بكامل النسق البنائي للديمقراطية. فالعقل الجمعي في النهاية يشكل مخارج عديدة ناجعة، لكثير من قضايا وتعقيدات العملية الديمقراطية، حتى وإن كان ذلك العقل أقل أنواع العقول فطنة وذكاءً. ولهذا في اعتقادي دلالة فلسفية كبيرة باتجاه إيجاد الحلول والقبول بها للكثير من المسائل الفكرية والسياسية والاجتماعية المعقدة. حتى وإن كُنتُ أرفض فكرة الاحتكام إلى العقل الأقل حكمة وذكاء. لكنني سأقبل لتحقيق مبدأ التعايش مع الآخر واستمرار دوران عجلة الحياة الإنسانية.