مرت السنتان الماضيتان على عدد من الشعوب العربية، وهي مُثقلة بأحداث ومفاصل تاريخية لا تُنسى. رأينا فيها عددا من الطغاة الذين كانوا يملؤون الأرض جورا وفسادا، أصبحوا اليوم بيد السجانين صاغرين أو هاربين من العدالة!. لم يكن لأحد أن يتصور حدوث كل تلك الأحداث المتسارعة إلا أنها دورة التاريخ وسنن الله في الكون.
ثار الثائرون وفرح الناس بالثورة التي رفعت شعارات محاربة الظلم والفساد والاستبداد، ولا يمكن إنكار أن أهم عوامل تلك الثورات هو الفقر والبطالة، اللذان طالما عانت منهما تلك الشعوب. وقد كان من ميزات الثورات العربية الأخيرة، أن أغلب التيارات السياسية أو كلها باختلاف أشكالها خرجت فرحة بانتصار الثورة، ولم يكن لها طيف أو لون سياسي محدد، وكم كان مُبهِجا عندما رأينا أبناء البلد الواحد تحت راية واحدة تجمع كلمتهم وصفوفهم.
ليس من العقل أن ندعو إلى أن يكون الناس على مشرب سياسي واحد، فعقول البشر وأفهامهم مختلفة بطبيعتها، ولكن البحث عن مظلة يجتمع كل الفرقاء والأطياف تحتها أمر جوهري لاستقرار أي دولة، ويجب أن يكون هذا الغطاء الحدَّ الأدنى للاجتماع حوله، أو لنقل أنه الخط الأحمر الذي يجب ألا يتجاوزه الفرقاء، أو لنصفه بأنه الحبل الذي يمسك به العالقون فوق الهاوية.
الحقيقة أننا لا يمكن أن نتوقع صورة مثالية لما قد يحدث في دول لم تعتد على ممارسة أو مشاركة سياسية حقيقية، ثم تبدأ مسيرتها الديموقراطية بلا مشاكل. ولكن، في نفس الوقت يجب أن يعرف الجميع أخطاءهم ليتجاوزوها أو يصححوها في المستقبل. فالبعض يرى أن الفرصة تاريخية لاختطاف الثورة بدلا من التضحية لمصلحة البلد!. لم يكن الأولى أن يستغل البعض تلك الفرصة التاريخية ليهرب بالبلد في مرحلة تاريخية صعبة لتحقيق أيديولوجياته دون أن يحقق تلك المظلة أو الغطاء اللذين تحدثت عنهما قبل قليل!.
كان من الواجب أن يراعي أولئك الظرفَ التاريخي، وأن يجلسوا لخصومهم قدر الاستطاعة!، وهم حتى لو كانوا أقلية فهم أبناء لذلك البلد، ويشكلون شريحة كبيرة يجب مراعاتها، ولها حقوقها. وحتى في الشريعة الإسلامية فإن التدرج في التشريع ومراعاة الناس والتخفيف عليهم مثلا لم يكن فقط لتلك الفترة في بداية الإسلام، بل هو مبدأ تؤيده الشريعة وتقره كلما احتيج له كما قرره ابن القيم وغيره. والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: "إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق". ولما عاتب ابن الخليفة الصالح عمر بن عبدالعزيز أباه، قال له: "لا تعجل يا بنيّ، فإن الله ذمّ الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة، وأنا أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة فيدعونه جملة، ويكون في ذلك فتنة". كما أفتى الإمام مالك مثلا لبعض الرقيق آنذاك وقد أسلموا أن يُقدّم لهم أسيادُهم الطعامَ في رمضان، وألا يُكرهونهم على الصيام، إلى أن يتعلموا الإسلام ويدركوا أحكامه.
لا أريد أن أتطرق للحديث عن برامج تلك التيارات، وأناقش مدى صحة شرعية تلك البرامج أو عدمها، ولكن هذا أصل عام يجب أن يأخذوا به، خاصة وأن أغلبها يرفع شعارات الإسلام.
فإذا كان الإنسان في بيته وداخل ملكه لا يمكنه أن يفرض كل ما يشاء، ولو أراد ذلك لربما عصاه أبناؤه وتمردوا عليه، فكيف ببلد شاسع يعيش فيه مختلف الأطياف والأفكار!.
أعتقد أن من أهم ما يجب أن يكون في منظور كل تلك الأحزاب السياسية أن تبدأ بتطوير ومراجعة أفكارها وآرائها السياسية لتخرجها من حدودها الضيقة، وأن تحاول الرجوع لتوسيع المبادئ العامة؛ كي تشمل أكبر قدر ممكن من أطياف البلد، بدلا من تلك المجموعات التي كانت تعمل في الخفاء، ومن خلال أعداد محدودة.
وبالتأمل في الحراك الثقافي خلال السنتين الماضيتين، نجد تحوّلات فكرية كبيرة في أيديولوجيات العديد من التيارات الإسلامية وغيرها. فبعد أن كان مجرد المشاركة السياسية في الحكم الديموقراطي كفرا ـ لدى بعض التيارات ـ، رأينا من قال بإثم من لم يُصوّت ويشارك!. بالطبع هذا كان لأجل تحقيق أغراض سياسية، وهم بلا شك يعتقدون أنها شرعية، وبعضهم ربما يرون إباحة ذلك لمجرد مرحلة فقط، إلا أنها في الحقيقة تحمل حراكا ثقافيا كبيرا، وآمل أن يستمر الحراك والحوار بين التيارات لأجل مصلحة البلد والجميع، وإن كان هناك تخوّفات جدية من خروج الأمور والخلافات عن السيطرة ويبدأ هدم البلد من جديد!.
كل التضحيات التي قدمها الثوار في تلك البلدان، كانت لأجل الحرية والإصلاح ومحاربة الاستبداد، وهي لم تكن أبدا لمجرد انتقام أو لأجل الثورة ذاتها، وإنما لأجل أهداف الثورة العامة، ولكن ماذا لو عادت مجموعات إلى نفس الممارسات الاستبدادية السابقة، تحت أي مسمى؟. عندها سيقول الناس إن الثورة تحتاج إلى ثورة!.