من ركائز الحضارة الغربية الحديثة تقديس الحريات الشخصية وحمايتها، وكثيرا ما نسمع نقدا لهذا المبدأ، خاصة فيما يتعلق بالقضايا المرتبطة بالدين وتعليماته. ولكن؛ ما موقف الإسلام الصحيح نحو الحريات الشخصية؟ هل مبدأ الحرية الشخصية يتناقض مع شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟

الحقيقة أن الجواب عن هذا التساؤل يحتاج إلى مساحة أكبر، ولكن أود إثارة بعض النقاط وتصحيح بعض المفاهيم الخاطئة في ذلك من وجهة نظري.

أولا يجب ذكر أن الحرية مقيّدة بما قيده الشرع الحنيف، وهذه قاعدة عامة فيما يتعلق بالتزامات الشخص تجاه دينه، ولكن فيما يتعلق بالآخرين؛ هل يحق للآمر بالمعروف أن يتدخل في حرية الآخرين الشخصية من خلال مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ فعندما يشرب إنسان الخمر، نجد حالتين؛ الأولى أن هذا الإنسان قد ارتكب جرما في حق دينه بشربه الخمر وهو ليس حرا في ذلك، كما يشرع للآخرين الإنكار عليه طالما أظهر ذلك، ولكن (وهذه الحالة الثانية) لو شرب ذلك في بيته وعلمنا أنه يشرب الخمر، فهل يجوز للآمر بالمعروف أن يدخل وينكر عليه شربه أو أن يتجسس عليه؟

حالة أخرى؛ عندما يكون هناك رجل وامرأة وبدا منهما شيء يثير الريبة، فهنا أيضا حالتان؛ الأولى: أنه إذا كان هناك منكر ظاهر فهذا لا إشكال في إنكار ذلك المنكر ذاته، وهذا بشكل عام. والثانية: هل يجوز أن يُسأل ويُبحث عن أشياء أخرى؟ كتفتيشهما أو البحث في الجوال أو حتى السؤال عن العلاقة بين الشخصين هل هي شرعية أم لا؟

الرأي ـ والله أعلم ـ أن الإسلام نهى عن البحث عن المنكر والسؤال عنه في الحالة الثانية، فلم يأمر الإسلام بالبحث عن عورات الناس والتجسس عليهم لأجل إنكارها! فالإنكار يكون على ذات المنكَر الذي ظهر، ولا يجوز البحث والتنقيب في العورات بداعي الإنكار، وهو نوع من التجسس الذي جاء النهي عنه!

ولذلك يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا) وقال القرطبي في تفسيره للآية: "ومعنى الآية خذوا ما ظهر، ولا تتبعوا عورات المسلمين، أي لا يبحث أحدكم عن عيب أخيه حتى يطلع عليه بعد أن ستره الله". فبعد أن أمر الله باجتناب سوء الظن؛ أكّد عليه بالنهي عن التجسس! بمعنى أنك إن أسأت الظن في أحد فأنت مأمور باجتناب ذلك الظن السيئ، وفي حال وجود سوء الظن؛ فإنه أيضا لا يجوز لك أن تتجسس لتتأكد من الظن السيئ!

وكذلك جاء الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام: (إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا) وهو مطابق لمعنى وسياق الآية السابقة. وفي حديث آخر: (إنك إن اتبعت عورات المسلمين أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم).

وقد تحدث الكثير من العلماء المتقدمين حول هذا الموضوع عند نقاشهم لمذهب الخوارج الذين كانوا يعتمدون امتحان الناس وسؤالهم عن عقيدتهم لأجل أن يحكموا عليهم بالكفر أو الإسلام! وهذا بلا شك مبدأ مخالف لمقاصد الإسلام العامة ولنصوصه الخاصة.

ونرى موقف عبدالرحمن بن عوف عندما كان يحرس ليلة مع عمر بن الخطاب رضي الله عنهما بالمدينة، فرأوا سراجا في بيت، وسمعوا أصواتا مرتفعة ولغطا، فقال عمر: "هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف وهم الآن شرب فما ترى" فقال ابن عوف: "أرى أنا قد أتينا ما نهى الله عنه، ولا تجسسوا وقد تجسسنا، فانصرف عمر وتركهم.

ومن فقه ابن مسعود رضي الله عنه أنه عندما أتي برجل فقيل لـه: هذا فلان تقطر لحيته خمراً، أنه قال: "إنا قد نهينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به"، بمعنى أننا كمسلمين لسنا مطالبين بأن نبحث عن فلان لماذا يشرب الخمر وقد استتر، ولكن طالما وقد ظهر ذلك المنكر جهرا وجب إنكار ذاته.

أعود وأقول نعم إن الإسلام وضع ضوابط على الحريات الشخصية، ولكن في الوقت نفسه هناك مقدار من الحرية الشخصية التي تركها الإسلام للشخص، فالمسلم مطالب ويجب أن يُقيِّد حرية نفسه ويجتنب كل المحرمات، ولكن في كثير من الأحوال، لم يجعل الإسلام للآخرين أن يبحثوا في مدى التزام كل شخص وهل صام وصلى ؟!

كما أن المسلم له مجال من الحرية فيما يتعلق باختيار الرأي الفقهي الذي يراه واقتنع به عند خلاف الفقهاء في المسألة، فإذا اختار الإنسان قولا خلافيا، وكان الخلاف معتبرا في المسألة؛ فلا يجوز لأحد أن يُكرهه بأن يلتزم برأي آخر، طالما أن المسألة تتعلق بذات الشخص، ولم يكن هناك شأن عام أو إضرار بالمصالح العامة.

خلاصة الأمر؛ أن هناك العديد من الممارسات التي ينتهجها بعض الإخوة المحتسبين تحتاج إلى مراجعة في مدى شرعيتها، كما أنه ولعدم وجود نظام يوضح آليات وطريقة الإنكار لدى جهاز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإن النتيجة ستصبح أن العاملين في الميدان لهم حرية الاجتهاد وإلزام الناس بما يرون على اختلاف آرائهم، وهذا بلا شك قد يؤدي لبعض الانتهاكات للحريات الشخصية التي يكلفها لهم الإسلام، ولكن هل ستتم مراجعتها؟ أرجو ذلك..