مهما طالت فترة العمل سواء في القطاع العام أو في القطاع الخاص فنهاية ذلك هو التقاعد النظامي نظرا لوصول الموظف للعمر القانوني للتقاعد، وهذه سنة الحياة، إن كل شيء له نهاية، كما إن هناك أنواعا أخرى من التقاعد المبكر سواء المبني على الرغبة، أو التقاعد نظرا للظروف الصحية، ويعد التقاعد عندنا كابوسا كبيرا لكثير من الموظفين، بل يكون خبر التقاعد عندهم مثل الصاعقة، ويبدأ في التفكير في كثير من الجوانب التي كان ينوي إنجازها أثناء فترة عمله، ولكنها لم تتحقق نتيجة للتأجيل المستمر، أو عدم الاهتمام بها، وذلك نتيجة لسوء التخطيط. المتأمل لحال الكثير من الموظفين عندنا سواء من المدنيين، أو العسكريين يجد أنهم غير مستعدين للتقاعد معنويا أو نفسيا، أو حتى ماديا، ولا يوجد لديهم تخطيط مسبق لمرحلة ما بعد التقاعد، وكثير منهم عندما يعلم بخبر تقاعده - خاصة من العسكريين ذوي الرتب العالية - يصاب بالذهول وبالصدمة أحيانا، ويمر بأزمة نفسية كبيرة، وقد يطلق بعض المتقاعدين عددا من العبارات العفوية بعد معرفته بوصول قرار تقاعده مباشرة مثل: "تقاعدت قبل أن أملك بيتا" - خاصة من الذين يؤمن لهم سكن من قبل الجهات التي يعملون بها - فتوافر السكن يجعل البعض ينسى أو يتناسى حاجته وحاجة أسرته لسكن خاص، أو "جاء التقاعد قبل أن أنتهي من مشروع السكن الذي بدأته قبل فترة قريبة"، وهنا أتساءل: لماذا لم يتم الانتهاء منه عندما كان على رأس العمل؟ والبعض الآخر من المتقاعدين يشتكي أنه لا يملك سيارة له ولأسرته عندما يتقاعد؛ لأن السيارة كانت موفرة له عندما كان على رأس العمل، والبعض يقول "جاء التقاعد قبل أن أحقق الأهداف التي أخطط لها منذ فترة من الزمن".. أما البعض الآخر من المتقاعدين الحريصين على الدنيا فيصاب بهموم كثيرة وأمراض نفسية مختلفة، أو أمراض عضوية مثل القولون العصبي، أو غير ذلك من الأمراض نتيجة تقاعده، كما أن البعض يعتقد أن التقاعد نهاية الحياة، فلا بعد المدة التي قضاها في العمل مرحلة عمرية أخرى، وحقيقة الأمر أن هؤلاء لا يدركون أن التقاعد يعد بمثابة انطلاق حياة جديدة، وعمر جديد، ولا بد من استثماره إيجابيا بأكبر قدر ممكن.
هذا بعض ما يحدث لكثير من المتقاعدين نتيجة لعدم الاستعداد المسبق للتقاعد سواء نفسيا أو ماديا، أو لعدم معرفة الشخص بتاريخ نهاية خدمته كما في العسكريين ذوي الرتب العالية، كما أن غياب التخطيط لمرحلة ما بعد التقاعد يسهم بدرجة كبيرة في معاناة الكثير منهم، فبعض المتقاعدين يعتقد أن التقاعد نهاية المرحلة، بل نهاية العمر.. ويستسلم، لا يتحرك من المدينة التي تقاعد فيها، بل يستقر وينتظر الأجل، وهذه الفئة تنطبق عليها مقولة "مت قاعدا نتيجة للتقاعد"، والبعض الآخر يعتقد أن التقاعد مرحلة جديدة للركض وراء الدنيا، والعمل بعيدا عن الروتين فيبدأ مشاريع تجارية، ويركض بين مشروع وآخر، يجهد نفسه، والنهاية قد يصاب بالإعياء، أو المرض، أو السكتة القلبية أو الدماغية من الإجهاد أو التفكير، ويقضي معظم وقته في مراجعة المستشفيات، هذا هو حال التقاعد، والمتقاعدين عندنا، فما هو حال التقاعد والمتقاعدين في الدول الأكثر تقدما؟
أما التقاعد والمتقاعدين في الدول الأوروبية والأميركية فلا يعانون مما يعاني منه المتقاعد عندنا، فهم على علم بتاريخ تقاعدهم منذ فترة طويلة، كما أنهم مستعدون للتقاعد، ولا يعمل التقاعد على إرباك حياتهم أو جداولهم، ولا يشكل لهم صدمة، والتقاعد بالنسبة لهم مرحلة جديدة يتطلعون لها، ويوفرون لها الكثير من مخصصاتهم المالية؛ فنجد المتقاعد منهم يخطط قبل تقاعده من العمل للانتقال من المدينة التي عمل بها إلى مدن تتميز بطقس معتدل وتعد من الوجهات السياحية في دولته، ويعمل على تأجير المنزل الذي يملكه في المدينة التي يعمل بها قبل التقاعد، أو قد يبيعه ويقوم بشراء بيت يتناسب معه ومع أسرته في الجهة التي قرر أن يقضي بها فترة ما بعد تقاعده، ويعمل له جدولا يوميا بعد تقاعده يستمتع فيه بالقيام بعدد من الأنشطة التي تتناسب مع ميوله وقدراته وتحقق طموحاته، وقد يقوم بعض المتقاعدين برحلات سياحية لزيارة كثير من دول العالم في مجموعات سياحية مخطط لها، وبعض المتقاعدين الذين لديهم القدرة على العمل والحركة قد يتوجه إلى القيام ببعض الأعمال التي يتقنها مثل بعض أعمال الصيانة من كهرباء أو سباكة أو نجارة أو غير ذلك من أعمال الصيانة، ويكون هدفه الأول والأساس هو قضاء الوقت وتحقيق الرغبة والهواية، وليس الكسب المادي، وبذلك فهو يقضي وقته بما يعود عليه بالنفع والفائدة وبدون أن يكون هناك إجهاد جسدي أو معنوي أو نفسي.
التقاعد عندنا نهاية، والتقاعد عندهم بداية، وكل منا يتعامل معه كما يراه وكما يعيشه، ويترتب عليه أشياء كثيرة، وهنا أرى أن التقاعد مرحلة عمرية لا بد من استثمارها والاستمتاع بها، وجعلها مرحلة مليئة بالعمل الخيري بعيدا عن التعامل معها على أنها نهاية المطاف، كما أرى أنه من الضروري أن يعرف كل شخص تاريخ تقاعده، ولا يصله تقاعده فجأة ما لم يكن هناك مبرر يدعو لذلك.