بداية هذا الأسبوع كنت ضمن فريق عمل تلفزيوني لبرنامج الثامنة الذي يُعرض على قناة (MBC)، وقد زرنا قرية مزهرة بجازان، لعمل تقرير خاص عن ملابسات ما حدث للطفلة (رهام حكمي). مزهرة قرية هادئة تقع جنوب شرق مدينة جازان، وهي مسقط رأس وسكن الطفلة صاحبة القصة الأشهر التي حركت الرأي العام والمجتمع السعودي بالكامل، والتي أعتقد أن قصتها ستدون تاريخاً جديداً لجازان وعلى مستويات كثيرة، بل إنني أعتقد أن ذلك سيحدث على مستوى الوطن أيضاً.

حين دخلنا إلى القرية كان في استقبالنا أحد أعمامها، الذي قادنا إلى منزل (رهام) الواقع في نهاية ممرات ملتوية أشبه بالدهاليز الضيقة، وكان أول ما لفت نظري حين دخلنا إلى البيت بعض الخربشات الجدارية التي حظيت (رهام) بنصيب كبير منها، لقد شدتني العبارة المكتوبة بخط يدها (رهام + فوكس = love). حاولت تفسير ما الذي كانت تريد رهام قوله أو التعبير عنه من خلال هذه العبارة، فبدأت بمحاولات لترجمتها إلى العربية، علني أفلح في الحصول على نتيجة مرضية، لكن أكثر ما عاندني كان كلمة (فوكس)، لأنه من الطبيعي جداً أن تكون (رهام) الطفلة مساوية للناتج (love)، أما غير الطبيعي فهو وجود كلمة (fox) الثعلب، أوالمحتال، أوالمراوغ في معادلة (رهام) المعقدة. فهل كانت تقصد أن تقول لنا: (رهام حتى مع وجود الثعالب والمحتالين لن تتخلى عن البراءة والحب؟).

وقت قصير قد انقضى على صدور قرارات وزارة الصحة على ما حدث، وتوقع الكثير من الناس أن تصل العقوبات إلى مستويات أعلى، من تلك التي صدرت بحقهم عقوبات الوزارة، لكن الواقع كان على غير ما توقعه أو على الأقل ما كان يتوقعه الشارع. الآن وقد مرت عين العاصفة، وبقيت بعض رياحها تهب هنا وهناك.. في رأيي أن الأمر قد تم حسمه إلى حد بعيد، وعلينا الآن أن نفكر بالمستقبل، وكيف يجب أن يكون شكله على ضوء قضية الطفلة رهام، التي في رأيي قدمت أثمن الفرص الحقيقية لنقف على أخطائنا، ونصر على معالجة الخلل بعزيمة أكثر بعيداً عن سيطرة عواطفنا، والتفكير بذكاء أكثر للمصلحة العامة. لا يعني هذا الرأي نسيان قضية رهام، بقدر ما هو محاولة لتوجيه الأمور ناحية الفعل الإيجابي على ضوء الفرصة التي قدمتها، للمطالبة بتحسين أداء الخدمات الصحية بجازان وبقية المناطق السعودية، فجازان تعاني على مستوى الأداء الصحي منذ فترة ليست بالقصيرة، وكل النداءات بإصلاح المشكلات في القطاع الصحي قد لاقت آذاناَ صماوات حتى حدثت الكارثة. كما ذكر الزميل الكاتب الدكتور حمود أبوطالب في مقاله الثلاثاء الماضي، عن الوضع المأساوي لبنوك الدم في جازان، والحاجة إلى الإشراف المتخصص الذي يغيب تماماً عن بنوك الدم في المنطقة، إن غياب التأهيل التقني والبشري عن مثل هذه الأماكن هو قمة الخطأ، ذلك أنه حينما يتعلق الأمر بحياة الإنسان وسلامته، فإنه من الواجب علينا التفكير والعمل على تضييق هوامش الخطأ قدر الإمكان، وقدر الإمكان هنا تعني توفير كل المعدات والخبرات اللازمة لذلك. تعمدت في بداية المقال أن أتناول الأمر من الناحية العاطفية، وهي التي انسقنا جميعاً إليها في بداية الأمر، وهو أمر لا يعيبنا ولا ينتقص من حجم وعينا، بل إنه دليل على إنسانيتنا وتراحمنا وترابطنا في هذا المجتمع. فالإحساس العاطفي الذي يجمعنا هو أحد المكونات الاجتماعية المؤثرة في مجتمعنا، ويجب أن نحافظ عليه قدر الإمكان، وبالمقابل ليس من المفترض أن نقع تحت ضغطه المتواصل دون أن نمنح الفرصة الكاملة للعقل أيضاً.

الآن في رأيي تأتي الفرصة التي أسميها (فرصة رهام) لتصحيح المسار. فمعادلة رهام الصعبة ستظل دون حل، وما لم نتأمل قضيتها بالطريقة السليمة، ونتعامل مع واقع الحدث بحكمة وروية، فلن يتغير الحال كثيراً، وستبقى الأخطاء الفادحة تظهر إلى السطح، وأعتقد أن علينا النظر إلى الأمور من الناحية الأكثر إيجابية، فوضعنا الآن يشبه حالة البكاء على اللبن المسكوب، ولن يقدم الكثير للمستقبل لا القريب ولا البعيد، وأظن أن أفضل ما نقدمه لرهام، هو الضغط على وزارة الصحة لتقديم أعلى مواصفات الخدمات الصحية في المستشفيات وبنوك الدم، ومحاسبة من تسبب في حدوث الكوارث الطبية بالعقوبات الرادعة، التي تضمن عدم التهاون في أداء الواجبات في القطاع الصحي تحديداً، وإلا فإن رهام وحدها ستظل من يعرف أصل تفاصيل معادلتها تلك.