خارج كل بروتوكولات الزيارات السياسية، يكاد كل مواطني دول المنطقة يشعرون بأن شيئا ما يخصهم ويمس حياتهم بشكل مؤثر في الجولة العربية الأخيرة التي قام بها خادم الحرمين الشريفين والتي شملت مصر وسوريا ولبنان والأردن، وفي واقع الأمر فهذه صفة تكاد تلازم مختلف المواقف التي يتخذها الملك عبدالله في رؤيته للحياة السياسية في المنطقة العربية، ومثلما لا يأبه المواطنون في الدول العربية بالبيانات التقليدية التي تصدر عن كثير من القمم لأنها عبارة عن كلام عام في مجملها، فإن أبرز ما يلفت الأنظار في المواقف السياسية لخادم الحرمين أنها تحمل أفكارا يمكن قياسها وقراءتها على أرض الواقع ، وكل موقف يمثل مرحلة.
الآن بات من الواضح جدا أن مبادرة الملك عبدالله في قمة الكويت لم تكن مجرد إجراء أو موقف آني يضيف محورا جديدا داخل تلك القمة، بل كان خطوة أولى تهدف لخلق مناخ إيجابي لعمل عربي هو الذي سيمثل الضمانة الوحيدة لخروج المنطقة من أزماتها، واستعدادها لإدارة كل ما يستجد في تلك الأزمات، وما يشاهده العالم العربي اليوم من مواقف ملكية سعودية، هو في الواقع ليس سوى نتيجة لتصميم سعودي واثق وواع وقوي على أن يقطع الطريق على القوى التي لا ترى في المنطقة سوى دوائر منهكة ومنشغلة بصراعاتها الداخلية، وهوالهدف الذي يتوجب على جميع القوى داخل دول المنطقة أن تستوعبه وتسعى لتحقيقه؟
ما الذي يتبقى الآن من ملفات عالقة في المنطقة العربية، وبخاصة تلك التي تؤجج روح الصراعات وتكسر حالات الوفاق الداخلي في مختلف البلدان، وتجعلها ساحة لحروب وصراعات بالإنابة؟
في الواقع إن جميعها ملفات داخلية، سوف يتوجب عليها الآن أن تحسم خلافاتها، وإلا دخلت المنطقة العربية في مفارقات واسعة، ففي حين يكون المناخ السياسي بين دول المنطقة إيجابيا للغاية، تكون الأوضاع الداخلية لبلدان ذات حساسية عالية في المنطقة معلقة، وخاضعة للاستجابة لعوامل خارجية، أو لاضطراب داخلي.
تحمل الجولة الملكية فكرة عظيمة ومؤثرة للغاية، بل وتكشف أن كثيرا من الأزمات التي تمر بالمنطقة إنما هي نتيجة أزمات داخل بعض دول المنطقة، ولعل الوضع الفلسطيني يمكن أن يمثل العلامة الأبرز على ذلك، فالمواقف العربية بين كل دول المنطقة، تكاد تكون مجمعة على رأي واحد فيما يتعلق بالاحتلال وإدانة كل الممارسات الإسرائيلية، بينما يخضع الوضع الفلسطيني الداخلي لحالة من التناحر واختلاف وجهات النظر أدت في مواقع كثيرة إلى نشوب مواجهات داخلية، كانت حربة في ظهر كل الجهود العربية ، ودليلا على أن كل الحلول الخارجية مهما كانت جدواها إلا أن وجود أوضاع داخلية متأزمة سوف يبعثر كل ذلك.
لقد مثل لبنان أسرع منفذ قابل لاختراق المجال السياسي العربي، والتأثير في كثير من ملفاته، وما يحدث الآن من تصاعد في لهجة الخلاف في الداخل اللبناني يؤكد أن كل ملف داخلي هو في الواقع مقدمة لملف خارجي سوف لن يكون تأثيره محليا فقط، وللبنان تاريخ حافل بالصراعات الداخلية التي تحولت إلى ملفات إقليمية، لكن الواقع الآن يصنع شبكة متداخلة من القضايا اللبنانية فالترقب الذي يعيشه في انتظار قرارات المحكمة الدولية والمواقف الاستباقية من تلك القرارات إضافة إلى وجود تنظيم أشبه ما يكون بدولة داخل الدولة متمثلا في حزب الله، وارتباطه الوثيق بإيران ذات الاستعداد المفرط للتدخل ولعب الأدوار المربكة وما تعيشه المنطقة من مفاوضات متردية لعملية السلام.
الوفاق السياسي العربي الذي تقوده السعودية الآن ربما يمثل الإحراج الأبرز لإسرائيل التي طالما استفادت في مناوراتها السياسية من غياب الوفاق السياسي العربي، وكذلك إحراجا لإيران، مما يجعلهما الآن في حالة تستلزم منهما الوفاء بما هو معلن من مواقف، وتستلزم كذلك دورا أكثر صرامة ومصداقية من الدول العظمى.
في طائرة واحدة يصل كل من خادم الحرمين الشريفين والرئيس السوري بشار الأسد إلى بيروت، في مشهد مؤثر للغاية في الوجدان العربي، ومؤثر في إعادة قراءة الواقع السياسي للمنطقة الذي دشنه العاهل السعودي في قمة الكويت العام الماضي.
إننا أمام تعريف جديد لصورة القائد العربي الرمز فلم تعد الخطب الرنانة ولا العداوات المفتعلة ولا الضغائن السياسية هي التي تصنع تلك الرمزية، وإنما السعي إلى إيجاد مناخ عربي تدرك فيه كل الدول العرwبية قيمتها القطرية داخليا، ودورها في صناعة الاستقرار السياسي الحقيقي وهو ما لا يتأتى إلا من خلال الاستقرار القطري الذي سوف يجعل منها كيانا مستقرا، يؤهله استقراره الداخلي للإسهام في صناعة استقرار عربي.
لقد أوضح الملك عبدالله للعالم العربي أن كثيرا من الصراعات كانت مفتعلة ومرتبطة بذهنية عربية متردية ظلت تعتاش طويلا على تراث سياسي عربي كانت تصنعه بلاغة الانفعالات فيما تتهاوى أسئلة الجدوى، وهو ما أفرز واقعا عربيا مكتظا بالخسارات والتخلف.
تحت عباءة رؤيته السياسية الواعية، يتجه الملك مع القيادات السياسية العربية ليحمل تعريفا جديدا للمبادرة حين تكون قيمة عليا يزدهر فيها الطموح السياسي باستقرار عربي على كل الحسابات التي لا تؤمن بالجدوى، وغدا حين يزدهر هذا المناخ العربي الجديد فلن تتوقف جدواه عند استقرار الحقل السياسي العربي فقط، بل في الحقول الداخلية لكل شعوب ودول المنطقة.