ليس من الغريب تذكّر المسرح الرحباني الآن، وسط بكاء الشام وأنينه الحالي. ليس من الغريب أن يحضر المسرح الرحباني، وصوت فيروز وقت الحرب في الشام. على العكس تماما، فمآسي الشام وآلامه بل حبه كانت دائما المعين الذي سكب الجمال الرحباني، بأشكاله كافة، في الذائقة العربية والروح العربية. لم تستطع الحرب أن تخطف الفن الرحباني لصالحها، لم تستطع أن تغذيه بالحقد والكراهية. لم يكن الفن الرحباني في يوم من الأيام وقودا لسفك الدم الشامي ولا اللبناني. ونحن نعلم أن هذا ليس بالأمر الشائع في عالمنا العربي، بل هو تفرد لم يتكرر كثيرا. في أجواء الحرب الأهلية في لبنان كان الفن الرحباني منحازا باستمرار للبنان ولا شيء غيره. لا يعني هذا أن الفن الرحباني كان غائبا عن الصراح أو متحاشيا له. أبدا، بل إن الحال اللبنانية، والحرب الأهلية عنوانها، كانت حاضرة باستمرار في الإبداع الرحباني في صوره المتعددة : الكلمة والنغمة والصورة.
الرحابنة "عاصي ومنصور" وثالثتهم فيروز، شكلوا منذ أواخر الخمسينات في القرن الماضي ظاهرة فنية رائدة يمكن أن نعدها قد انعتقت من حالة الإفلاس العربية المستشرية. تجلت هذه الظاهرة في أكثر من شكل، المسرح الغنائي كان أبرزها وأكثرها غنى وتوهّجا قدم المسرح الرحباني نحو 27 مسرحية ابتداء من "أيام الحصاد" 1957 وصولا إلى "الربيع السابع" بدون فيروز سنة 1984.
ماذا يميز الفن الرحباني المنطوق بصوت فيروز؟ وما سر هذا التلازم بين فيروز والصباح؟ لماذا تكاد تتفق الكثير من محطات الإذاعة العربية و القنوات الفضائية على تقديم الأغنية الفيروزية صباحا؟
الأغنية الفيروزية هي أفضل بداية ليوم جديد، لماذا؟ يبدو أن حالة الصفاء والطهر المتكرّسة في الصوت الفيروزي، وذلك النوع من الحب المتسامي فوق مناحات الهجر والبعد، كما أن حضور المكان اللبناني، الجبل، الضيعة، الحارة البديعة سلفا يجعل من الأغنية الفيروزية مرافقة بل خالقة لحالة من المزاج المتصالح مع الذات ومع الحياة. الأغنية الفيروزية تجمع ـ كإحدى تفرداتها ـ بين العمق الفلسفي وبين البساطة والمباشرة. نتذكر هنا: "أسامينا... شو تعبوا أهالينا تـ لقوها... شو افتكروا فيها... الأسامي كلام... شو خص الكلام... عينينا هنّي أسامينا" كما نتذكر "كيف حالك يا جار... لو تعرف شو صار.. سرقنا من ورداتك وردي... وشكلنا الزنّار".
من أجمل ما كتب عن فيروز والرحابنة كتاب فيروز والرحابنة: مسرح الغريب والكنز والأعجوبة لفواز طرابلسي، وهو قراءة في المسرح الرحباني كونه انعكاسا للحالة اللبنانية خاصة في وجهيها: السياسي والاقتصادي. فواز طرابلسي، القادم هنا بخلفية يسارية ليقرأ كما يقرر "أهم ظاهرة فنية وثقافية عرفها لبنان خلال النصف الثاني من القرن العشرين". ما سر النفوذ الذي تتمتع به الظاهرة الرحبانية؟ يفسر الطرابلسي ذلك بأربعة عوامل أولها: صوت فيروز. ولا حاجة لمزيد، ثانيا: العبقرية الموسيقية والشعرية والمسرحية لعاصي ومنصور، وثورتهما الفنية التجديدية. ثالثا: حقيقة أن الفن الرحباني أقرب ظاهرة ثقافية إلى الشمول الوطني على الرغم من أن نقطة الانطلاق والمرجعية هي الثقافة الشعبية لجبل لبنان. رابعا: الفن الرحباني فن شعبي ليس في توجهه وحسب، وإنما أيضا وخاصة في مادته ومخياله وتعبيره.
كيف صوّرت المسرحيات الرحبانية الصراعات السياسية والاجتماعية؟ هذا هو سؤال هذا الكتاب. كل من شاهد المسرح الرحباني يعلم أن هذه الصراعات تشكّل بعدا لا يمكن إخفاؤه، البعض يرى أنه هدف المسرح الرحباني في الخاتمة والبعض الآخر، أنسي الحاج مثلا، يرى أنه وسيلة ووسيط من أجل إيصال الرسالة الميتافيزيقية.
منهجيا، يساهم فريدرك جايمسون الناقد الثقافي الأميركي بخلفية ماركسية بفرضيته التي تقول: "إن النتاجات الثقافية هي أفعال مرمّزة اجتماعيا على الدوام. ويضيف، كما عند ستراوس: إن التناقضات الاجتماعية الحقيقية، التي يصعب أو يستحيل تجاوزها، كثيرا ما تلقى حلولها الشكلية في الحيّز الجمالي. إذن تجب قراءة المنتجات الثقافية كافة بما هي حلول رمزية لصراعات سياسية واجتماعية حقيقية".
لن يكتفي فواز الطرابلسي بقراءة المسرح من مضمونه، فهذه القراءة كما يرى لا تستنفد كل ما يقدمه لنا الفن الرحباني. لكنه يضيف جملة من العوامل المتداخلة تشكل المنظور الذي من خلاله يواكب الرحابنة الصراعات اللبنانية. أول هذه العوامل الموقع الاجتماعي الذي ينظر منه الرحابنة إلى الأحداث. "عاصي ومنصور" أبناء الريف الرعوي، الشرطيان لاحقا. ثانيا: علاقة الفنانين بجمهورهم. هناك علاقة تأثير وتأثر مستمرة بين المنتج الثقافي "الفنان" والمستهلك له "الجمهور". هذه العلاقة يمكن أن تساهم الفهم أكثر. ثالثا: العلاقة مع الأيديولوجيا السائدة. رابعا: الفولكلور، يقول الطرابلسي: "إن مسرح الرحابنة سجلّ بالغ الغنى لفولكلور لبنان والمشرق العربي بعامة. والفولكلور، بما هو المادة الخام للمسرح الرحباني، ظاهرة متناقضة متعددة الأوجه والاتجاهات. والسؤال الذي سنحاول الإجابة عنه هو: أية جوانب يبرزها الرحابنة من هذا الفولكلور، وفي أي وقت ولأي غرض؟".
قراءة مثل هذه يجب الحذر في التعامل معها أكثر من غيرها، كون رياح التأويل الأيديولوجي تهب في كل مكان. هل هناك من قراءة بريئة؟ ليس الآن. لكن هذه القراءة هامة جدا، فهي إضاءة للمسرح الرحباني، واستعادة له كممثل للحالة اللبنانية على مدى أكثر من خمس وعشرين سنة. قراءة مليئة بكل ملامح البيئة السياسية والاجتماعية المضطربة والمتحولة.