كنت أنا وصاحبي "مطفوق" نتسامر في "الاستراحة" كمعظم السعوديين، وتدور بيننا كالعادة حوارات شتى تبحث حتى آفاق الفضاء وتنزل حتى تصل إلى "أم رقيبة".. هكذا نحن في راحاتنا، لا ندع موضوعاً شائكاً أو شائقاً إلا وذبحناه نقاشاً و"فصفصة"، ومن هنا دعوني أحدثكم هذه المرة عن صاحبي "مطفوق الأرعن" الذي غلبت صفته وكنيته على اسمه الحقيقي.. هو ذلك الإنسان الذي يعيش في المدينة بصيرورة ابن الصحراء، أو ابن القرية الذي لم يتلون أو يداهن، بل هو المباشر الذي ينفر من صراحته أبناء المدن، لسانه صريح وجريح، معبر عما في قلبه، لا يواري ولا يداري ولا يجامل ولا يحابي.. هو بمعايير المدينة إنسان جلف فظ غليظ اللسان، لكنه مع ذلك أبيض القلب والسريرة، متصالح مع نفسه، يمارس حياته بحسب اختياره لا بحسب التزين أمام الغير، ومظهره لا يتسم بالأناقة لكنه نظيف الملبس، أعمد إلى الجلوس معه أحيانا كلما نفرت نفسي من الحيف والزيف والخلط والغلط واللف والدوران.
أعلم أن بعض معارفي يتضايقون من مصاحبتي له، أو دخوله عليهم في المجلس أو في الاستراحة، لأن وجوده يثير حنق كثير من الزملاء الذين يرون عوراتهم مبطوحة على لسانه، لكنني أحتاجه كلما أردت أن أسمع رأياً محايداً ونزيهاً في التعليم أو الوضع الصحي أو الحال الكروي والرياضي. وله رأيه المتفرد في الشأن الاجتماعي السياسي والثقافي الخليجي والعربي والدولي.. حالته الرثة وذقنه التي ينساها حتى تكتث ثم يتذكرها فيحزها حتى تجتث لا تنفي كونه رجلاً مطلعاً وقارئاً نهماً للكتب وللصحف الورقية، بل حتى صحف الإعلانات المبوبة ينبشها سطراً سطراً، ويقرأ في بعض الكتب النفسية والاجتماعية.. لا يحب الشعر ويعتقد بنظرة مغايرة للسائد أن الشعر هو سبب ضياع العرب، فكله ـ بحسب رأيه ـ ديوان مليء بالكذب والتزوير، ويرى أن قصائد مدائح الخلفاء والحكام القديمة والحديثة الفصيحة منها والنبطية إنما هي مجرد شحاذة مباشرة، وأن مضامينها كذب، باعتبار أن الشاعر يبالغ في المدح والثناء لتكبر الأعطية أو الشرهة، كما يرى أن شعر الهجاء شتيمة وبذاءة عربية متأصلة، تكرس العنصرية والقبلية، وأنها تعبير عن عجز وحسد الشاعر تجاه المهجو. ويعتقد "مطفوق" أن كثيرا من المعلقات التي تكنى بعيون الشعر إنما هي من عيوب وذنوب الشعر، كما أن "مطفوق" هذا يرى أن الرثاء هو أقرب أنواع الشعر للصدق، باعتباره عاطفة إنسانية جياشة، حيث لا يرجو الراثي من المرثي أي امتياز أو هدية بعد أن يكون قد مضى إلى حتفه.
"مطفوق" يقول إن الشعر هو الذي جعل العرب أمة حالمة ناعسة غير واقعية. وفي رأي مختلف يرى "مطفوق" أن كتابة الرواية وانتشارها تأليفاً وقراءة إنما هو تأكيد على أن المجتمع آخذ بأسباب المدنية والحضارة، وأن المجتمع السعودي متجه في ميولاته وإبداعاته الأدبية للانصراف عن وهم الشعر وخداع الخيال إلى التعاطي مع الواقع ومع الرواية.
"مطفوق" شخصية كانت تتوفر في المجتمع السابق بكثرة، لكن مع تكابر وتكاثر المدن أخذت مثل هذه الشخصيات في الانزواء ثم الانحسار، لأنها صارت منبوذة وغير مرغوبة في ظل تغير الطبائع والنفسيات التي جلبتها المدن وانعكست سلبا على تلك الشخصيات القروية العفوية المباشرة الصريحة التي لا تناور ولا تمسح جوخاً ولا تستجدي رضا الغير، كما لا تخشى أيضا لوم الغير. وفي المقالة القادمة سأحدثكم عن بعض رؤاه وأفكاره.