عندما تستمع لخطبة أو محاضرة أو مجرد لقاء مع فضيلة الشيخ الدكتور عدنان إبراهيم لأول مرة، تشعر وبلا تردد أنك أمام شيخ، يختلف تماما عمن اعتدت أن تسمع لهم، لا من حيث الهيئة وحسن الهندام وسلاسة وبلاغة الأسلوب، ولكن أيضا من حيث جدة الأفكار التي يطرحها، ويصعقك بذكائها وجدتها وحسن طرحها. ولذلك فإنك تحتار في أي حقل معرفي أو حركي ديني تصنفه، فهل تصنفه داعية، أم عالم دين، أم مفكرا إسلاميا؟ قد تحتار في أي خانة مما سبق تضعه فيها، ولكنك لن تحتار في أن تصنفه من أذكى أذكياء من نقد الخطاب الديني التقليدي المستهلك، ومن داخل الخطاب الديني نفسه وبأدواته ومناهجه، والسعي لتفنيد موروثه اللاعقلاني واستنفار وتحريض العقول عليه.

عدنان إبراهيم، ينتمي لمنظري الفكر الإسلامي الحديث لا الجديد، حيث ولد في مخيم النصيرات في غزة، عام 1966، ودرس المراحل الابتدائية والمتوسطة والثانوية فيه، ودرس الطب في يوغسلافيا والنمسا. عندما أقول بالحديث وليس بالجديد، فإنني أفصله عمن يسمون بالدعاة الجدد، من أمثال عمرو خالد، ومن على شاكلته، الذين جددوا في أسلوب الطرح لا الخطاب نفسه. أما شيخنا عدنان، فقد جدد في الطرح نفسه، مع فرادته بالأسلوب، فهو نسيج خاص وحده لا يماثله سواه.

لقد خرجت لنا المخيمات الفلسطينية ثوريين ومناضلين وفدائيين، رفعوا رؤوسنا وحافظوا على عزتنا وكرامتنا، بقدر ما استطاعوا، وخرج لنا مخيم النصيرات، ثوريا ومناضلا وفدائيا من نوع آخر، من النوع الذي كذلك يحفظ لنا كرامتنا ويحمي عقولنا التي في رؤوسنا، بطرحه الإسلامي الإنساني المتميز والمتوائم مع مناخ العصر والمتفاعل مع معطياته، والمكرس لمبادئه الإنسانية النبيلة، إنه فضيلة الفدائي بالحق ومن أجل الحق، الدكتور عدنان إبراهيم. كثيرا ما سمعنا وقرأنا لكتّاب ومفكرين وحتى فلاسفة، ينتقدون الخطاب الديني وبحدة، وبأدوات ومناهج علمية أو علمانية، لا تتواءم عادة مع الطرح الديني، أي بأنهم يفكرون من خارج الصندوق. أما الشيخ عدنان إبراهيم، فهو ينقد الخطاب الديني بنفس أدواته ومناهجه، أي يفكر من داخل الصندوق، لا من خارجه، وبالأصح فهو يعيد ترتيب ما بداخل الصندوق، ويرمي ما نتن منه وما فسد وزكم العقول وعفنها قبل الأنوف. وأخذ يسلط عليها نور شمس عقله، ويعقم ما بداخله ويظهره للنور بجماله الخلاب، ليسعد ويبهج به البصيرة قبل الأبصار.

وعودة لسؤالنا هل الشيخ عدنان داعية أم عالم دين أم مفكر إسلامي؟ عندما أطرح مصطلح الداعية، فأنا لا أطرحه هنا كما كان متعارفا عليه قبل عقود، وهو الرجل الذي يدعو للإسلام وينشره بين الشعوب غير المسلمة، بأخلاقه السامية وتعامله الحسن وتواضعه الجم وتسامحه الجميل، الذي يعكس روحه النبيلة وعلمه القويم بالإسلام، من أمثال الذين نشروا الإسلام في مناطق عدة من شرق آسيا، ولكنني أقصد من تم التعارف عليهم بالدعاة، وهم الذين يدعون المسلمين للإسلام، عن طريق التهويل والترهيب والتحريم والتكفير، الذين كانوا يسمون في التاريخ الإسلامي بالوعّاظ ويسمون الآن بالدعاة. الدعاة هؤلاء، لا يحملون خطابا إسلاميا جديدا، ناهيك عن أن يتجرؤوا على نقد الخطاب القديم، بل هم يسوّقون له ويعيدون إنتاجه، ولو حسبوا أنهم يجددون فيه عن طريق تجديد طريقة الوعظ لا غير، مع كون الوعاظ القدماء أكثر تواضعا وزهدا من الوعاظ الجدد وبمراحل.

من المعروف أن الوعاظ القدماء والجدد، يحرصون كل الحرص، على تحييد عقول جماهيرهم، ومخاطبة غرائز الخوف والفرح والرغبة والشهوة، وحتى غريزة الكره لديهم، من أجل تمرير ما يصبون إلى تمريره، لا إلى عقولهم، ولكن إلى حيث تستقر عصبياتهم وعصابهم، ليتمكن الجهل منهم، ويقودوهم كما تقاد النعاج لمذابحها ومسالخها. الخطاب الوعظي التقليدي القديم منه والحديث، يعتمد معظمه على الخرافة والكذب والتهويل والتدليس، ولو أتى ذلك على حساب ما روي من صحيح أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو حتى ما ورد في القرآن الكريم، من آيات محكمات غير متشابهات. وحاشى الشيخ عدنان إبراهيم من أن يكون من هؤلاء أو يشبههم، بل بالعكس منهم فهو يحرض على نبذ الخرافة بقضها وقضيضها، ويطالب بتحييد العاطفة ويؤكد على ذلك، ويحض على استخدام العقل بأقصى وأقسى درجاته. وأغلب من يحرض وينشر الأكاذيب على الدكتور الشيخ عدنان الآن، هم الوعاظ، الذين أخذ يزلزل بخطابه العقلاني عروشهم الكرتونية الواهنة. إذاً فالشيخ عدنان، ليس من الوعاظ "الدعاة" لا الجدد ولا القدماء، بأي حال من الأحوال. فهل من الممكن بأن يصنف الشيخ عدنان إبراهيم، كعالم دين؟ من ناحية علم وتوسع الشيخ عدنان بالعلوم الإسلامية وتفقهه فيها، وقدرته على مقارنتها وحياكتها مع ما يلـم به من العلوم الطبيعية والإنسانية الحديثة منها والقديمة، وتمـكنه من عدة لغات حيوية وحية، نستطيع القول إنه عـالم دين. ولكن العلماء يُعرفون عن طريق كتبهم ومؤلفاتهم، وتلامذتهم الذين يحضرون دروسهم ويتخرجون من تحت أيديهم لا خطاباتهم الشفهية فقط. والشيخ عدنان ـ على حسب علمي ـ حتى الآن لم ينشر، أي كتاب من تأليفه، لا بالدين ولا بغيره من العلوم. وهذا يجعلنا نتردد نوعا ما، من تصنيفه كعالم دين، أو على الأقل، من علماء الدين المتعارف على تصنيفهم كعلماء دين قديما وحديثا.

إذاً فهل من الممكن تصنيف الشيخ عدنان إبراهيم، كمفكر إسلامي؟ المفكر الإسلامي هـو في الأول والأخير عالم دين إسلامي، مطلع ومتمكن من معظم العلوم الإسلامية، إن لم نقل جميعها، وله مشروع علمي وثقافي "فكري"، ينقد فيه الخطاب الديني السابق له ويعيد ترتيبه ليدشن من خلال ذلك، خطا جديدا في الفكر الإسلامي. وبرغم كون الشيخ عدنان، مطلعا ومتمكنا من معظم العلوم الإسلامية، ويحمل خطابا نقديا جريئا، إلا أن خطابه، لم يتبلور بعد، كمشروع فكري نقـدي إسـلامي، واضح المعالم، حتى الآن.

إذاً أعتقد بأن أقرب حـقل من حقول المعرفة الدينية، الذي يتماشى مع خطاب الشـيخ عدنان إبراهيم، هو حقل الإصلاح الديني. حيث الشيخ عدنان مهموم حتى النخاع، بطرح خطاب نقدي إصلاحي للخطاب الإسلامي السائد. ليـس بالضرورة أن يكون عـالم الدين مصلحا دينيا، ولا كذلك المفكر الديني، ولكن بالضـرورة أن يكون المصلح الديني عالما ومفكرا دينيا، ولو لم يسع لأن يتسمى بهما. وليس بالضرورة أن يكون عالـم الـدين ولا المفكـر الديـني شجاعا، ولكـن من الضـرورة أن يكون المصلح الديـني شجاعا، والشيخ عدنان إبراهـيم، يحـمل شجاعة وإقدام المصلح الديني.

وحاجة المصلح الديني للشجاعة، كونه يقوم بنقض وتفنيد خطاب ديني شيدت وعاشت عليه مؤسسات وأحـزاب وحركات دينية وسياسية لقرون، وتحصد من ورائه ثروات تلو الثروات، ناهـيك عن المكسب السياسي والوجاهة الاجتماعية، التي تـجتر من ورائه. حفظ الله شيخنا عدنان وحماه وأيده بنصر منه وسدد خطاه.