أضافت وزارة الخدمة المدنية حلقة جديدة لمسلسلها المتخبط الخاص بالوظائف الصحية. هذه المرة أغارت الوزارة على تخصص صحة البيئة لتقتله في مهده، ظنا منها بأن لا أهمية له، فهي لم تقتنع برأي التعليم العالي، ولم تقتنع بجميع كليات الصحة العامة، وكليات العلوم الطبية التطبيقية، ولم تقتنع بارتفاع معدلات السرطان المحلية، ولم تقتنع بارتفاع معدلات الأمراض الصدرية، ولم تقتنع بانتشار حمى الضنك، ولم تقتنع بالحاجة لمراقبة المياه والأطعمة، ولم تقتنع بجميع الدراسات الاقتصادية عن تأثيرات البيئة على صحة الإنسان على المدى القريب والبعيد.
عدم اقتناع الوزارة بتخصص صحة البيئة، أدى إلى رفضها بأن يدرج على لائحة التخصصات الصحية فقط لينضم خريجو هذا التخصص المهم إلى صفوف الضائعة حقوقهم في المجال الصحي، ويصبحوا كرة تتقاذفها وزارة الصحة، ووزارة الخدمة المدنية في مباراة لا حكم لها.
وبما أن منهجية وزارة الخدمة المدنية على ما يبدو تقوم على عدم الاقتناع، فلا بد أن نحاول إقناعها، وإلا فطالب المرحلة الثانوية يستطيع سرد الأدلة على أهمية هذا التخصص من مناهج العلوم الطبيعية، وليست بحاجة لمجلس بوزارة لم تكلف نفسها إعطاء تفسير لهذا الرفض.
يقوم أخصائيو صحة البيئة بمهام عديدة، وبعضها حساس وحيوي في الدول المتقدمة، فهم يقومون بدراسة وتحديد الفئات المجتمعية الأكثر عرضة للأخطار البيئية، كوجودهم بالقرب من المصانع ومصافي البترول، ووضع خطط وقائية مسحية لاكتشاف الأمراض مبكرا لديهم. يقوم المختص بالصحة البيئية بدراسة لحظية للتفشيات والحد من مسبباتها البيئية؛ لاحتوائها بأسرع وقت ممكن، وحمى الضنك مثال حي، فما زلنا نعاني منها لضعف التعامل البيئي معها، لنكتفي برش وردم موقت وعلاج، لتعود مجددا مع كل موسم أمطار أو خلل في صرف صحي.
من مهام أخصائي صحة البيئة ،البحث والقيام بإيجاد العلاقة بين الخصائص البيئية والأمراض المنتشرة في مكان معين؛ ليتم التحكم بها قدر المستطاع، فنحن ما زلنا نذكر استنجاد سكان قرية حقال بالقرب من مكة المكرمة، بعد انتشارالسرطان بين سكانها ومطالبتهم مع عدد من المختصين بتحليل المياه الجوفية لقريتهم، الذي هو من صميم عمل أخصائيي صحة البيئة. لا تقف مهامهم عند ذلك بل تمتد لإيجاد عوامل الخطورة البيئية وهندسة برامج لتقليلها، والرفع بتوصيات وسياسات لصناع القرار بمدى فاعلية التداخلات الحالية، إن وجدت، وتطويرها أو تغييرها حسب الحاجة.
لعل أحد أهم مهام أخصائي صحة البيئة، هو تمكين أفراد المجتمع من التحكم بالمؤثرات البيئية وعوامل الخطورة المحيطة بهم، عن طريق تزويدهم بإحصاءات دقيقة عن مناطق معيشتهم، ومن ثم توعيتهم بطرق الرصد والعلامات المبكرة للأمراض، خاصة المجتمعات الأكثر عرضة. هؤلاء الجنود المجهولون لدينا هم قادة في الدولة المتقدمة، فلا يمكن أن يكتمل فريق كوارث وطني دون وجود أخصائي صحة البيئة، ولا يتم الرفع بتقارير التنمية المحلية والدولية للدول دون إدراج تقرير صحة البيئة، الذي يقدم مؤشرات دقيقة تربط بين جهود الدولة في التحكم بالأضرار البيئية، ومعدلات انتشار الأمراض ذات المسببات البيئية أو التي لها عوامل خطورة بيئية.
وطالما أن الشيء بالشيء يُذكر، فإن جميع الخطط الخمسية التنموية للمملكة لم تغفل البيئة وصحتها، حتى إن المادة الثالثة الخاصة بالمهام والواجبات من اللائحة التنفيذية للنظام العام للبيئة، تنص بفقرتها الثانية على إعداد وتطوير الإجراءات واللوائح الخاصة بتأهيل وتسجيل الجهات والأشخاص العاملين في المجالات البيئية المختلفة.
قامت وزارة التعليم العالي ومعها قطاعات أخرى بالرفع للاعتراف بمختصي صحة البيئة وتسجيلهم، وهي التي تقوم بتخريجهم محليا وخارجيا، ودعت لإدراجهم في لائحتهم الصحيحة المنطقية وهي اللائحة الصحية، في محاولة منها لدفع العجلة التنموية البيئية، لتقوم برفضها وزارة الخدمة المدنية.
المواطنون مؤهلون ومؤسساتهم تنادي بتسجيلهم وتوظيفهم، فمن يقوم بعرقلة التنمية الآن؟.