الأوضاع الأمنية بالبلدان التي شهدت التحولات بأعلى هرم السلطة، فيما أصبح معروفا بالربيع العربي، تبدو مرشحة لمزيد من الانهيارات. ولسنا هنا في وارد توصيف ما يجري، في هذه البلدان. فما تنقله الفضائيات، ووكالات الأنباء عن الاغتيالات السياسية في تونس، وآخرها اغتيال أحد القيادات السياسية، السيد شكري بلعيد، وقد تبع ذلك تفجر للأوضاع الأمنية، التي كانت مشتعلة في الأصل، ولم تكن بحاجة إلى مزيد من الوقود، وقد أجبرت هذه الحوادث، رئيس الحكومة، السيد حمادي الجبالي على تقديم استقالته، وتشكيل حكومة جديدة، لا يبدو أن حظها سيكون أفضل من سابقتها، ما لم يتم التوصل إلى حل جذري للأزمة.

أجبرت حالة الانهيار التي عمت مختلف المدن التونسية الرئيسة، رئيس الجمهورية المنصف المرزوقي، على تمديد حالة الطوارئ المعلنة، منذ قيام الثورة، ثلاثة أشهر أخرى، قابلة للتمديد.

في أرض الكنانة، فإن الأوضاع أسوأ بكثير، عما هي في تونس. فهناك حركة عصيان مدني في مديني: بورسعيد والدقهلية، والتظاهرات اليومية مستمرة في الإسكندرية ومحافظة المنصورة. وحوادث تبادل إحراق مقرات الموالاة والمعارضة، بمدن مصر الرئيسة باتت من المظاهر المعتادة. وأعداد القتلى الذين يسقطون يوميا جراء التجاذب والصراع بين الإخوان المسلمين وحلفائهم، وبين جبهة الإنقاذ تتجه إلى التصاعد.

ورغم دعوة الرئيس الدكتور محمد مرسي، الأخيرة لمختلف الفرقاء، للجلوس على طاولة الحوار، ووضع حد للأوضاع المتردية في مصر، فإن قوى المعارضة ترفض ذلك، وتشترط إلغاء الدستور الذي يعبر في حقيقته عن الموقف السياسي للإخوان، ولا يمثل إجماعا وطنيا.

وبدلا من الحوار الذي اقترحه الرئيس، تطالب قوى المعارضة بتشكيل حكومة إنقاذ وطني، تقود البلاد في المرحلة الانتقالية، وتشكيل لجنة تمثل التوافق الوطني، تشرف على صياغة دستور جديد وانتخابات برلمانية جديدة. ووفقا لهذه المطالب، فإن من الطبيعي أن ترفض المعارضة المشاركة في الانتخابات البرلمانية المقبلة، المزمع إجراؤها في الشهر القادم.

جاء وصول وزير الخارجية "جون كيري"، في محاولة للتوسط بين مختلف الأطراف المتصارعة في مصر، وللمساعدة على إقناع أطراف المعارضة للمشاركة في الانتخابات البرلمانية الجديدة، والتخلي عن شروطها. وقد وصم الموقف الأميركي من قبل المعارضة المصرية بالتحيز للإخوان المسلمين، والعمل على إيجاد مخرج سياسي لإنقاذهم. ويأتي رفض قادة المعارضة، وفي مقدمتهم السيد حمدين صباحي، قائد التيار الشعبي، والدكتور محمد البرادعي، اللقاء مع وزير الخارجية الأميركي، أمرا طبيعيا. فهم يرون أن كيري، قد جاء لينقذ نظام الإخوان من السقوط، وليعطل مشروعهم الهادف إلى ما أطلقوا عليه باستمرار "الثورة"، حتى تحقيق أهدافها كاملة في إنجاز التحول الديموقراطي، وسيادة مفهوم التوافق بدلا من مفهوم الغلبة، الذي اعتمدته جماعة الإخوان المسلمين، لفرض برنامجها في أخونة الدولة والمجتمع في مصر.

والقضية هذه تأخذ حضورا قويا أيضا في تونس وليبيا، إذ يصر المعارضون على تغليب مبدأ التوافق، بدلا من سيادة مفهوم الغلبة. والفرق بين الموقفين كبير، وحاسم.

يتعلل الإخوان المسلمون، أنهم وصلوا إلى السلطة في بلدان الربيع العربي، عن طريق صناديق الاقتراع، وأن ذلك يمنحهم شرعية لا تُنازع. فالوصول إلى السلطة عن طريق صناديق الاقتراع هو غاية الديموقراطية. ورغم ما في هذا الادعاء من بعض جوانب الديموقراطية الغربية، لكن ذلك هو عنصر واحد فقط من عناصر التحول إلى الدولة المدنية، وليس يكفي وجود هذا العنصر، لوصف النظام الجديد بالديموقراطي، ومنح نظامه صفة الدولة المدنية.

وتبدو محاذير ومخاطر هذا التوصيف أكثر، حين لا يمثل الاقتراع على الدستور إجماعا وطنيا، بمعنى اتفاق كل مكونات النسيج الاجتماعي عليه، وذلك لا يتحقق مطلقا من خلال صناديق الاقتراع، وإنما بتوافق سياسي بين أبناء الوطن، وفي مقدمتهم أبناء الأقليات، الذين لن يتأكد انتماؤهم للوطن، وحصولهم على حق المواطنة من غير تحقيق التوافق معهم على الدستور.

هذه القضايا تقودنا إلى أسباب الصراع الدموي الدائر الآن في بلدان الربيع العربي، وبشكل خاص في مصر وتونس وليبيا. فهذه الأسباب تعود ابتداء إلى قصر مرحلة الانتقال السياسي التي مرت بها هذه البلدان، إثر مغادرة ابن علي لتونس، وتنحي الرئيس مبارك عن السلطة في مصر، ومصرع القذافي في مدينة سرت بليبيا. ويمكن القول: إن الاستثناء في هذا السياق، هو اليمن، الذي ساهمت المبادرة الخليجية بالرعاية السعودية في خروجه من النفق. وكان ما تحقق فعلا على الأرض، هو اللجوء إلى توافق مختلف الأطراف السياسية، والوصول إلى تحقيق حوار وطني لا يستثني أحدا، وتغليب لغة التوافق، من خلال الحوار، على لغة الغلبة، المستندة على نتائج صناديق الاقتراع.

لقد ساهم التجريف السياسي، الذي مارسته الطبقة الحاكمة في المرحلة التي سبقت الربيع العربي، واستمرت لعدة عقود، في إيجاد فراغ كبير، لم يكن بالإمكان أن تملأه سوى حركات الإسلام السياسي، التي أتيحت لها فرص عديدة لإعادة إنتاج كوادرها. وحين حدث الإعصار، الذي قادته الحركة الشبابية، التي لا تملك أية خلفية سياسية، واستمرت في حراكها مواقع التواصل الاجتماعي، أتيح للإخوان وحلفائهم اختطاف الحراك وتوجيهه، بما يخدم أهدافهم في الاستيلاء على السلطة.

الخروج من المأزق الراهن، لن يتم إلا بإعادة الاعتبار لأدبيات التحول السياسي، وفي مقدمتها، وجود مرحلة انتقال سياسي طويلة، تتيح للقوى السياسية الأخرى، أن تشكل كوادرها وهياكلها، فتكون قادرة على التنافس في مضمار الانتخاب الحر، واللجوء لصناديق الاقتراع. وحتى يتم ذلك، فلا مناص من تشكيل حكومات وحدة وطنية في بلدان الربيع العربي، تستكمل مهمات الانتقال، وعلى رأسها إعداد قوانين ولوائح تشكيل الأحزاب، ومؤسسات المجتمع المدني، وصياغة دساتير جديدة، يتم التوافق عليها بين مختلف مكونات النسيج الاجتماعي في هذه البلدان. ومن ثم إيجاد مناخات ملائمة لتحقيق انتخابات برلمانية ومجالس للشوري، وانتخاب رئاسة الجمهورية.

ولما يتم الانتصار لعملية التوافق على مفهوم الغلبة والإقصاء في هذه البلدان، فليس أمامنا سوى انهيار الكيانات الوطنية، وضياع الأمل الكبير في صناعة مستقبل عربي جديد، مستقبل أكثر منعة وبهجة.