لا أتخيل أن آدم عليه السلام ـ وهو أبو البشر ـ قد تغيرت طريقة تفكيره مباشرة بعد خروجه من الجنة، الأمر هنا لا يبدو منطقيا، فهو قد كان يحصل على الأشياء بمجرد التفكير فيها، واختلف الأمر تماما بعد إرساله إلى الأرض، إذ أصبح مطالبا بالتحرك بعد التفكير والحاجة إلى تطبيق ما فكر فيه، لا تنفيذ ما اشتهت نفسه. وهذا قطعا يسند فكرة الذهاب إلى وجوب توسيع دائرة التفكير، وفتح أبواب الاحتمالات على مصراعيها لتتمكن من الدخول إلى مرحلة أخرى من الذهنية، ترتفع معها إلى مراحل إيمانية أعلى وأكثر يقينا بالحاجة إلى الأشياء. وإلا فإن الإنسان سيكون فريسة سهلة لنموذج التفكير الدائري، وهو التفكير الذي يتخذ من الاقتناع بالموجودات لإثبات غير المرئيات أو استنتاجات الدليل بـ(لو) الاحتمالية، مثل الاستدلال بالدليل على صحة الاستنتاج، أي أن صحة الدليل متوقفة على صحة الاستنتاج لو كان صحيحا، لتعود وتقول: إن الاستنتاج صحيح لأن الدليل يقول بذلك. وهذا تماما ما كانت تفعله الكنيسة المسيحية في أوروبا، وقد أراد الفيلسوف والمفكر "ديكارت" أن يقدم إليهم نموذجا جديدا، يرفض أسلوب تقديمها لنفسها من خلال تفكيرها الدائري ذاك. فنجد أن "ديكارت" يرفض الاعتماد على استخدام الحواس والاستناد إليها كمساعدات لإثبات وجود الله مثلا، فهو يرى أن الحواس قد تكون مخادعة لعملية البحث، لذلك خلص إلى أن المنفذ الحقيقي الذي يمكن الاعتماد عليه، يعتمد في الأساس على عملية "التفكير" فقط وليس غير، وقد خلد له التاريخ بعد ذلك المقولة الشهيرة: "أنا أفكر إذن أنا موجود".

الواقع أن "ديكارت" بهذا يكون قد أوجد مدرسة فلسفية جديدة، تأخذ أهمية التفكير كأساس إثبات قوي غير قابل للشك بوجوده كوجود مادي حقيقي. والتفريق بين ما هية المحسوس والملموس بشكل علمي وقطعي، إذ أثبت العلم بعد ذلك ومن خلال نظرية "النسبية" للعالم الفيزيائي العظيم "آلبرت آينشتاين"، نسبية كل الموجودات دون استثناء، لذا فإن تبني "ديكارت" للتفكير كان صائبا جدا. وقطعا هناك من لا يقف إلى جوار هذه الأطروحات "الديكارتية"، والتاريخ يشهد على كثير من المحاربين للعقل بعمومه وخصوصه أيضا، الذين يعتقدون بنقصانه الكبير إزاء المرويات التاريخية، استنادا إلى التسليم الفردي للبعض بها، والانطلاق لتعميمها اجتماعيا كمسلمات غير قابلة للجدل، وتصل مواقفهم إلى حدود "تكفير" مجموعة العقلانيين العرب أو غير العرب، ويذكر التاريخ العربي الكثير من الرافضين لمثل هذه الطريقة البعيدة عن أسس التحليل المنطقي، ويقتربون كثيرا بل ويؤكدون بمجموعه مواقفهم التي سبقت ظهور "ديكارت" بآلاف السنين، على ما ذهب إليه من ضرورة الأخذ بنتائج التفكير ولو بنسب التوافق مع الوضع الطبيعي للأشياء، فنرى قبله "أبو يوسف ابن اسحاق الكندي 805 - 873" الذي حاول تقديم علم الفلسفة إلى العقلية العربية، واضعا الكثير من أطروحاته الفكرية لخدمة التوافق بين الفلسفة والعلوم الدينية على وجه الخصوص، ثم "أبو نصر محمد الفارابي 874 – 950" صاحب نظرية "الصدور والفيض" وهي النظرية التي حاول من خلالها التقريب لفهم الوجود، وهي أبرز ما قدمه الفارابي في حياته كفيلسوف، وهو يرى أن هناك حقيقة واحدة فقط، ولا حقيقتين لموضوع واحد. وعليه فقد قام بتقسيم الموجودات إلى قسمين: "الموجود الممكن الوجود: وهي الموجودات التي تستدعي العلة والتعليل لوجودها إذا وجدت؛ لأن وجودها مرتبط بحوادث لها علة حدوث، والموجود الواجب الوجود: وهو الموجود المفروض وجوده، ما يستدعي وجوده بالقطعية لتبرير علل الموجودات الممكنة"، ويُعتبر "الفاربي" من أساتذة المنطق. ثم نستدعي من التاريخ العربي أيضا أحد أهم الرموز الفلسفية والعقلية العربية الأصيلة، وهو "أبو الوليد ابن رشد 1125 – 1198"، الذي لم ير تعارضا بين الدين والأخلاق، وقال بالعديد من الأطروحات، وقد أورد أن الروح منقسمة إلى قسمين: يتعلق الأول بالشخص، ويتعلق الثاني بضمنية الإلهية وارتباطها بالشخص وما فيه. وهي إحدى الأطروحات التي رفضها بعض القائلين برفض كل ما يتعلق بمنطق الفلسفة اليونانية القديمة "لأفلاطون وأرسطو". ثم حين نقلب العصر الحديث يبرز إلى الواجهة "محمد عابد الجابري، ونصر حامد أبوزيد، وفرج فودة، وعدنان إبراهيم"، وغيرهم من المفكرين الذين أخذوا على عاتقهم تكريس العقل والمنطق، لفهم الوجود والاستدلال على الأشياء بمنطقها التسلسلي لا بكليتها العشوائية. ومتحاشين بذلك مأزق الوقوع في أخطاء المنطق Logic Errors، وأخطاء منطق الحوار، التي تؤكد على ضرورة توفر "المصدر الموثوق، والتفكير الدائري، وتجنب عبء الإثبات.. وغيرها من الأخطاء الشائعة في هذا الجانب" التي تستدعي الحضور الذهني الكامل لعملية التفكير والحوار المنطقي، قبل التسرع بإطلاق الأحكام التكفيرية المتطرفة أو تلك المنساقة خلف العواطف والفرضيات فقط.

أظن أننا بحاجة ماسة للاقتراب أكثر من وعي التفكير والحوار، المبنيين على أسس فكرية ومنطقية، نحدد من خلالها مواقفنا تجاه الأشياء والأفكار لا الأشخاص.