في مقال سابق بعنوان "جنون حرف الدال" نشر في هذه الصحيفة قبل عدة سنوات ناقشت سعي بعض أفراد المجتمع بشكل غير مقبول، وبشكل جنوني للحصول على شهادة الدكتوراه، ولا أقول درجة الدكتوراه؛ حيث هناك فرق بين شهادة الدكتوراه، ودرجة الدكتوراه. كما أنني أرى أن الشهادة يمكن الحصول عليها من الجامعات، أو المكاتب الوهمية مقابل مبالغ مادية، أما الدرجة العلمية، أو درجة الدكتوراه فهي جانب لا يمكن شراؤه بقيمة، لأنها معنوية ومرتبطة بشخصية الفرد، وما حققه من تعلم، ومعارف، ومهارات، وخبرات أثناء التحاقه الحقيقي بالبرامج غير الوهمية. وفي ذلك المقال عطفت على حرف "الدال" من بعض أفراد المجتمع لدينا الذين يعيشون في وهم، وأساؤوا استخدام هذا اللقب العلمي، ويحسون أن حصولهم على شهادة الدكتوراه الوهمية يغير من نظرة المجتمع لهم، ويعمل على تحسين أوضاعهم الوظيفية، وهم لا يدركون ما يجنون على أنفسهم بالدرجة الأولى، وعلى أسرهم، وعلى مجالات أعمالهم، وعلى مستقبلهم، وعلى الوطن بشكل أكبر.

فعملية تزوير الشهادات ليست عملية جديدة، وكثير من دول العالم تعاني منها بدرجات متفاوتة، وبدأت في المملكة على مستوى صغير، وإطار ضيق، ثم توسع الموضوع بشكل كبير، حتى إن الشخص ينام وليس لديه إلا درجة البكالوريوس، ويصحو في اليوم التالي ـ بقدرة قادر ـ ولديه ماجستير، ودكتوراه في تخصص من التخصصات التي يصعب على خريج المرحلة الجامعية بامتياز أن يحصل على قبول فيها من الجامعات المعروفة، والمرموقة على مستوى العالم.. فكيف حصل هؤلاء على هذه الشهادات في هذا الوقت القياسي، وبدون تعب أو عناء؟

هذا تزوير حقيقي لمن حصل على هذه الشهادات الوهمية وهو في بيته، أو مكتبه. وحقيقة الأمر أنه لم يظهر من هذه الشهادات إلا نسبة قليلة، خاصة ممن لديه الجرأة في إعلان حصوله على هذه الشهادة " المضروبة " لمن حوله شيئا فشيئا، وبعد انتشار خبر الحصول على الدرجة، يبدأ بعضهم في استخدام اللقب في مراسلاته تدريجيا، حتى أصبح "سعادة الدكتور..." ويصبح شيئا متعارفا عليه، وهناك نسبة كبيرة من حاملي هذه الشهادات الوهمية لم يظهروها، ولم يبلغوا بها أحدا، وينتظرون الوقت المناسب للإعلان عن الحصول عليها، مع أنه سبق شراؤها في أوقات سابقة، وهذه الفئة قد يمنعها الحياء من الإعلان عنها، أو التباهي بها، وقد يكون لديهم تخوف مما قد يترتب على الإفصاح عنها، ولو أتيحت الفرصة لهم لوجدنا أكثر من نصف المجتمع السعودي يحمل هذه النوعية من الشهادات، ولنا أن نتخيل ما سيكون عليه وضعنا في ضوء قيادة المجتمع من قبل هذه الفئة المزورة، والتي تؤمن بأحقية حصولها على هذه الشهادات الوهمية من المصادر غير المعروفة، أو غير الموجودة في الواقع الفعلي.

الجانب الآخر، والمهم في هذا المجال هو أن الحاصلين على هذه الشهادات المزورة الذين استخدموها فيما يقومون به من أعمال سواء في القطاع العام، أو الخاص؛ يعملون في مجالات مهمة تمس شريحة كبيرة من أفراد المجتمع، سواء في المجالات التربوية، أو الإشرافية، أو المجتمعية، أو الأسرية.. كل هذه الجوانب بحاجة إلى خبراء حقيقيين لا خبراء وهميين مزورين، فماذا سيكون عليه الحال عندما يصنع القرار في كثير من أمورنا شخص يؤمن بالجوانب الوهمية، ويعتمد عليها؟ إن كل ما يقوم به لن يخلو في الغالب من الأخطاء، وغياب الإتقان، وتدني مستوى الجودة، والدقة في التنفيذ. كما أن هناك عاملا آخر ظهر نتيجة لوجود الشهادات الوهمية هو الإساءة، والتأثير السلبي الذي يعاني منه أصحاب الشهادات والدرجات العلمية الصحيحة والحقيقية في تخصصات أصحاب الشهادات الوهمية، فأفراد المجتمع لم يعودوا يميزون بين ما هو وهمي وما هو صحيح، وبدأت تساورهم الشكوك حتى في أصحاب الشهادات الصحيحة الذين قضوا وقتا في البحث عن قبول بمؤسسات عريقة، ولها سمعتها في هذه التخصصات، ثم مكثوا وقتا طويلا من أعمارهم في الدراسة، والتعلم، والبحث، والتقصي والمرور بالاختبارات التي تتطلبها هذه البرامج، أما أصحاب الشهادات الوهمية فمعاناتهم لا تتعدى دفع قيمة هذه الشهادات، وهناك فروق كبيرة بين الفئتين، وكما يقال "اختلط الحابل بالنابل".

ومع الجهود التي تبذلها وزارة التعليم العالي في هذا المجال من إغلاق للدكاكين التي تروج، وتبيع هذه الشهادات الوهمية، وعدم معادلة الكثير من الشهادات التي لا تتوافق مع الشروط اللازمة للمعادلة، إلا أنه يتوقع منها الكثير في هذا المجال من خلال التنسيق مع الجهات الأمنية، والجهات ذات العلاقة الأخرى لكشف المزيد مثل هذه الشهادات المزورة، وعدم تمكين أصحابها من استخدامها في حياتهم الوظيفية، والمهنية، والعمل على تحويل من يثبت تزويره للشهادة للجهات المختصة لاتخاذ اللازم حيال تزويره، وما يترتب على ذلك من غش، وهنا أرى أن السعي للحصول على شهادات مزورة، ووهمية مرض وبحاجة إلى وقاية وعلاج في الوقت نفسه.