لم تغِّير الانتخابات الأميركية شيئاً في المشهد السياسي الأميركي. عاد باراك أوباما إلى البيت الأبيض، ولا يزال الحزب الديموقراطي يسيطر على مجلس الشيوخ، بينما يسيطر الحزب الجمهوري على مجلس النواب. لقد أدى الوضع الأميركي السياسي الداخلي إلى شلل مطول للحكومة، ولا يمتلك الرئيس أوباما ما يكفي من الدعم في الكونجرس من أجل مبادرات جديدة مهمة. ويقول تقرير نشرته "مؤسسة ستراتفور الأميركية للأبحاث" في نوفمبر الحالي إن الولايات المتحدة برزت كقوة عالمية وحيدة في 1991 مع انهيار الاتحاد السوفييتي. وبدا أن أميركا لم تكن مستعدة لذلك الدور وغير متأكدة حول كيفية القيام به. تتطلب ممارسة السلطة مهارة وخبرة، والولايات المتحدة لم تكن لديها مخططات لإدارة عالم لم تكن تواجه فيه أي منافس. كانت لديها مصالح عالمية ولكن لم تكن لديها إستراتيجية عالمية. بدأت تلك الفترة في 1991 وهي على وشك الانتهاء الآن. في البداية ساد اعتقاد وهمي بأن الولايات المتحدة ليست عرضة لأي مخاطر جدية. لكن أحداث 11 سبتمبر أنهت ذلك الاعتقاد وشعرت أميركا أن مصالحها تقضي بشن حرب ضد المتطرفين الإسلاميين. لكن ذلك أيضاً كان وهماً، فالتركيز على أمر واحد وإقصاء الأمور الأخرى كان خطيراً بحد ذاته. خلال النصف الثاني من العقد الماضي، أقنع عدم القدرة على إنهاء الحرب في العراق وأفغانستان والمشاكل الاقتصادية بعض الناس أن الولايات المتحدة دخلت مرحلة انهيار دائم. لكن نوع القوة الذي تمتلكه الولايات المتحدة لا ينتهي بسرعة. تفكك الوحدة الأوروبية والأزمة المالية التي تواجه الصين تركت الولايات المتحدة قوة عالمية دون منافس حقيقي. القضية هي ماذا يمكن أن تفعل بهذه القوة.
الاستخدام الدائم للقوة العسكرية ليس خياراً، ويفضل تجنب الحرب لمصلحة الترتيبات السياسية أو مساعدة أعداء الأعداء سياسياً واقتصادياً وعسكرياً. وكخيار أخير، عندما يصعب المحافظة على التوازن وتكون القضية ذات أهمية كافية، يمكن استخدام قوة عارمة لهزيمة العدو. لكن الإستراتيجية الأميركية للسنوات الماضية باستخدام قوة غير كافية لهزيمة عدو لا يمتلك القدرة الكافية على إيذاء الولايات المتحدة، ويمكن التعامل معه بطريقة مختلفة لا يمكن الاستمرار بها. عندما تأتي الحرب، يجب شنها بقوة عارمة تستطيع أن تهزم العدو بشكل حاسم. ولذلك فإن الحرب يجب أن تكون نادرة، لأن من الصعب تأمين القوة العارمة والأعداء لا يمكن دائماً التغلب عليهم بسهولة.
ليبيا وسورية
يقول تقرير ستراتفور إن الرمق الأخير لهذه الإستراتيجية كان ليبيا. والتدخل هناك لم يتم التفكير به بشكل جيِّد. نتائج سقوط القذافي لم يتم التخطيط لها بما يكفي، ولم يكن واضحاً مطلقاً لماذا تهتم الولايات المتحدة بمستقبل ليبيا. الوضع في ليبيا كان خارجاً عن السيطرة قبل الهجوم على القنصلية الليبية في بنغازي مؤخراً. التعامل الأميركي مع سورية مختلف تماماً. عدم رغبة الولايات المتحدة في توريط نفسها مباشرة بالعمل العسكري هناك، رغم الضغوط من أطراف عديدة، مثال على أنه يمكن تحقيق أهداف إستراتيجية مهمة بالاعتماد على قيام قوى إقليمية بإدارة المشكلة أو التأقلم معها إذا اختاروا ذلك. بعد تقديم المساعدات المحدودة اللازمة لزعزعة استقرار سورية، تركت الولايات المتحدة التوازن المحلي للقوى يأخذ مجراه.
يعود عدم التدخل العسكري الأميركي المباشر في سورية إلى عدم قدرة الولايات المتحدة لعب دور الشرطي العالمي، فهي مسؤولة عن متابعة مصالحها الخاصة بأقل تكلفة ممكنة. معرفة اللحظة المناسبة لدخول حرب وكيفية تجنبها فن يحتاج إلى إتقان ودراسة مستفيضة.
المأزق الداخلي
على صعيد آخر، مع أن أوباما قد يرغب في القيام بمبادرات مهمة في السياسة الداخلية، إلا أنه لا يستطيع ذلك. وفي الوقت نفسه، يبدو أنه ليس متحمساً للقيام بمغامرة على صعيد السياسة الخارجية. وليس واضحاً حالياً فيما إذا كان ذلك رداً على حسابات خاطئة أم إنه فهم إستراتيجي حقيقي، ولكن في كلتا الحالتين فإن تبني سياسة خارجية أكثر حذراً أمر طبيعي بالنسبة له. هذا سوف يؤسس لإطار يبدأ بإضفاء طابع مؤسساتي لدرسيْن هاميْن: الدرس الأول، من النادر أن تكون هناك حاجة لدخول حرب، والدرس الثاني هو أنه عندما تدخل أميركا حرباً ما، يجب أن تدخلها بكل ما لديها من قوة. سوف يتبع أوباما الدرس الأول على الأرجح، وهناك وقت كاف ليتعلم الآخرون الدرس الثاني.
سيكون هناك قدر كبير من عدم الرضا على إدارة أوباما في الفترة الرئاسية الثانية خارج الولايات المتحدة. بقدر ما يدين العالم الولايات المتحدة عندما تفعل شيئاً ما، فإن جزءاً من العالم على الأقل يطلب منها عادة القيام بعمل ما. أوباما سوف يخيب آمال دول أجنبية كثيرة، لكنه سيحاول إرضاء الجبهة الأميركية الداخلية في فترته الثانية.