حين يدلق أحدهم كلمة "البحارة" على أذنيك، يتبادر إلى ذهنك للوهلة الأولى مركب ذو أشرعة كبيرة، وتتخيل شكل الأمواج تتعالى في السماء مثل جبال شاهقة، وربما يأخذك خيالك لتصل إلى أولئك القراصنة الذين يعيثون في البحار خرابا، لكن ليس أي شيء من هذا مطروحا هنا، فـ"البحارة" لدى أهل الحدود هم أولئك الذين يعبئون سياراتهم بالوقود ليخرجوا به خارج المملكة ويقومون ببيعه.

البنزين كقطعة خبز

حين انطلقت من تبوك متوجها إلى مدينة العقبة الأردنية الساحلية الجميلة لأول مرة في حياتي قبل نحو 10 سنوات، فاجأتني أرتال السيارات الكبيرة وهي تقف عند الحدود تنتظر دورها لتخرج، سألت صديقا تعوّد على السفر لخارج المملكة برا كان بجانبي، عن هذه السيارات فأجاب ببساطة "هؤلاء من يقومون ببيع البنزين في الأردن".

منذ ذلك الحين وهؤلاء الناس قد وشموا أنفسهم في مخيلتي حتى لم أستطع نسيانهم، فكل مرة أسافر فيها للخارج برا، أتذكر راكبي هذه السيارات بوجوههم المجعدة، وهموم السنين التي يتأبطونها كصحيفة يومية.

لذا عندما وقفت أمام ذلك الجدار المكتوب عليه "بنزين سعودي" في مدينة العقبة الأردنية لم أتمالك نفسي فانطلقت لداخل ذلك "الحوش" الكبير الخالي من كل شيء ما عدا رائحة البنزين، فوجدت عاملا سودانيا يجلس على كرسي وأمامه طاولة عليها غداؤه، فسلّمت عليه، ورد عليّ وعاد ليأكل مما هو أمامه دون أن يحفل بي، وكأنه قد اعتاد على وجوه الغرباء.

قدّمت نفسي له على أنني صحفي سعودي، وبدأت أسأله عما يبيعه في هذا الحوش، فقال "نحن هنا نستقبل البنزين المقبل من الأراضي السعودية ونشتريه من بعض زبائننا، ونقوم ببيعه"، فسألته عن سعر شراء البنزين فقال "نحن نشتري الجالون وهو عبارة عن 20 لترا بـ12 دينارا أردنيا"، فبدأت بحساب سعره بما يعادل الريال السعودي فخرج لي سعر الـ20 لتر بـ 64 ريالا سعوديا، فيما يكون السعر في المملكة لهذه الــ20 لترا 12 ريالا.

حاول السوداني "إبراهيم" دعوتي للغداء مرارا، لكنني رفضت ذلك بلطف وعدت لأسأله عن الأشخاص الذين يقوم بالشراء منهم فقال "إننا نستقبل البنزين من أي سيارة سعودية، وليس هناك أشخاص بعينهم، لكن نحن لنا زبائن معتادون على مجيئهم لنا عادة"، فقمت بسؤاله عن تكرار مجيئهم إليه، وهل هو بشكل يومي فأجاب "هناك أشخاص عدة يأتون لنا بشكل يومي"، وأضاف "ويأتي أحيانا لنا عابرو طريق سعوديون يعبئون سياراتهم بالبنزين السعودي ويذهبون"، ويؤكد ذلك العامل بأن في مدينة العقبة وحدها ما يقارب 60 حوشا لاستقبال البنزين السعودي وشرائه ومن ثمّ بيعه، ويقول "بالمناسبة سعر البنزين السعودي أرخص من سعر البنزين الأردني، لذا يزورنا كثير من الزبائن الأردنيين ليقوموا بتعبئة سياراتهم بالوقود".

سألته فيما بعد عن نظامية عملهم هذا بالنسبة للحكومة الأردنية فأجاب بالنفي، وقال "صحيح أننا غير نظاميين لكن الأردنيين قبلوا بهذا الوضع، لكن في حال أقامت الحكومة الأردنية حملة نقوم بإقفال محلنا".

حين هممت بالرحيل، قال العامل السوداني لي "أنا أريد الذهاب إلى السعودية" فلم يكن مني إلا أن قلت له قدّم على تأشيرة وربما تأتيك، أثناء خروجي من باب المكتب الصغير المتهالك ذاك، سمعت العامل السوداني الآخر الذي كان يرقبنا صامتا يقول "في حال نشرت الصحيفة هذا الموضوع أرجو أن تأتيني بنسخة من العدد"، فذهبت بعد أن وعدته بجلب النسخة في المرة المقبلة.

الظهيرة تغسل الظهور

تجدهم في كل وقت، لكن عددهم يزداد وقت الظهيرة، حين تكون الشمس مثل سوط على الظهور، يقفون تحت مظلات المحطات، وكل واحد منهم بجانب سيارته المرتفعة من أحد جوانبها يستنشقون رائحة البنزين، وكأنها تمدهم بالحياة.

وقفت بجانب الشاب خالد العمراني الذي رفض بلطف تصويره وتسجيل المحادثة، لكنه فجأة شعر بالارتياح وبدأ يتحدث جوابا لسؤالي له: هل تخرج يوميا لتبيع البنزين؟ فقال "لا، أنا أخرج للأردن كل 6 أيام، لأن نظام الجمارك الجديد حدد هذه المدة لكل سيارة تريد الخروج لبيع البنزين في الخارج"، ويضيف "من كان لديه أكثر من سيارة يمكنه أن يخرج، لكن شريطة ألا تخرج السيارة الواحدة إلا بعد أن تمر عليها 6 أيام"، وسألته عن النظام في السابق كيف كان، فأجابني "قديما كان مسموحا لنا بأن نخرج بسياراتنا يوميا"، فسألته عن سبب ذلك فقال "لأجل الزحمة، وأزيدك بأن الجمارك الأردنية أصدرت نظاما بأن السيارة التي تحمل "تانكيي" بنزين يجب أن تدخل بتانكي واحد فقط، بينما الآخر لا بد أن يكون خاليا"، فسألته عن سعر تعبئته للبنزين وبيعه فقال "أنا أعبئ سيارتي بنزينا بـ100 ريال، وأبيعه بما يقارب 300 ريال"، ويستطرد العمراني قائلا "صحيح أن المسألة لم تعد ذات قيمة الآن، لأنك توفر في الشهر ما يقارب 1200 ريال من 4 طلعات للخارج بعد النظام الجديد، وعندك ولدان وزوجة، وإيجار منزل، لكن ماذا يمكن أن تعمل؟"، ويردف بأسى "هذا أفضل من أن نبقى في منازلنا".

أخذ خالد يتحدث عن الدخلاء على هذه المهنة، وأوضح أن هناك كثيرا يوقفون سياراتهم على الحدود وحينما تأتي عطلة نهاية الأسبوع يقومون بتعبئة سياراتهم بالوقود ويخرجون ليبيعوه، ويبقى طوال هذه العطلة في الأردن ثم يعود، وقال "هؤلاء أصبحوا ينافسوننا، وهم في الحقيقة غير محتاجين، ومن الجانب الأردني بدؤوا يعرفون هذا الأمر واستغلوا الموضوع لصالحهم"، وطالب العمراني الجمارك السعودية بأن تعيد النظر في قرار الـ6 أيام، وأن تعيد النظام كالسابق بحيث يستطيع الشخص أن يخرج بسيارته يوميا، ليستطيع أن يطعم أطفاله.

تركت العمراني واتجهت إلى رجل آخر، وحينما قدمت له نفسي رفض الحديث، ورفض أن أصوّره، واكتفى بأن قال لي "أنا ببساطة سعودي لكنني أعيش في الأردن، فلدي أهل وأقارب هناك".

المسؤول يتحدث

من جانبه أكد مدير جمارك حالة عمار فهاد الحربي أن نظام الجمارك يفرض على السيارة الواحدة التي يرغب صاحبها ببيع الوقود خارج المملكة بعدم الخروج إلا مرة كل 6 أيام، وقال "هذا النظام المعمول به في الوقت الحالي"، موضحا أنه لم يكن في السابق أي قرار بالسماح للخروج بالسيارة يوميا.