على مدى ساعة كاملة كان الحديث مع الأمير فيصل مشاري آل سعود، رئيس المركز الوطني للقياس والتقويم، عبارة عن نوع من المداولات بين الشارع وما يقولونه عن اختبارات القياس، وبين الرؤية العلمية والمهنية التي ينطلق منها المركز ويطبقها واقعا، بالطبع إن توصيفها بالمهنية والعلمية هنا لا يعني التحيز لها، بقدر ما يعني أن "القياس والتقويم" ينطلق من رؤية مهنية للطالب والثانوية العامة والجامعة، لتمثل تلك الاختبارات إدارة للعلاقة بين أطراف هذا المثلث. ذلك النقاش كان في حلقة سابقة من برنامج صاحب قرار.

الجمهور ليس على وفاق مع "قياس" ولا مع تلك الآلية ولا مع تلك الإدارة، الطلاب يرون أنهم تخرجوا من الثانوية العامة، وبالتالي فيجب أن يكون الحكم والفيصل في تحديد مستوياتهم، هو ذلك الاختبار وتلك النتائج التي تحققت، خاصة أنها وعلى المستوى النفسي للطلاب تمثل التعب الأكبر الذي بذلوه، وبالتالي يفترض بذلك التعب الطويل أن يكون هو معيار التقييم الأول أو الأهم على أقل تقدير، هذا موقف له ما يبرره، لكن لدى "قياس" أيضا ما يقوله، وهو أيضا موقف يستحق الاهتمام.

أول ما يمثل إعجازا للرافضين لـ"قياس" وأنظمته حين تقول لهم: إن هذا النظام موجود في بلدان العالم، وأنه جزء مهم من عملية تطوير ونضج التعليم لديهم، وفي مثل ثقافتنا المحلية يمكن لرأي مثل هذا أن يكون مؤثرا، على الأقل يخرج الرافضون لـ"قياس" من حالة الرفض المطلق للفكرة إلى حالة قبول النقاش حولها، وهو النقاش الأجدر بالتأمل والتوقف، بل والبحث عن إجابات مشتركة، فمن غير الممكن بعد كل تلك السنوات الحديث عن إلغاء "قياس"، هذا يبدو في حكم المستحيل، لكن الواجب والمهم والمنطقي سواء من المركز أو من الناس أن يتحول النقاش ليصبح عن كيفية تطوير "قياس" وتمكين الناس من الاقتناع به واستيعابه، وبالمقابل تطويره بما يلائم واقعنا ومنظومتنا التعليمية.

استعرضنا أثناء اللقاء مجموعة من التجارب العالمية في أنظمة القياس والتقويم، وجدنا أن بعض الدول قد بدأت بتطبيق هذا النظام منذ مئات السنين، وهو يتطور لديهم مع الوقت، وبحسب كل مرحلة، وبما يلائم ثقافتهم وواقعهم التعليمي، الفرق واضح بيننا وبينهم، هم لديهم هذا النظام، والذي وإن ناله شيء من النقد لكنه لا يصل إلى الحالة القائمة لدينا، لا نبالغ إذا قلنا إن الموقف العام لدينا من اختبارات القياس يكاد يكون سلبيا للغاية، أكثر الطلاب وأولياء الأمور يبدون امتعاضهم الدائم من هذا النظام، هذا واقع إذن لا بد من مواجهته، إما أنهم لا يدركون حجم الفائدة التي يقدمها لهم "قياس"، أو أنه لا يقدم لهم ما ينعكس إيجابا على واقعهم ومستقبلهم الدراسي، وهنا يكمن السؤال: من المألوف لدينا أن كثيرا من التنظيمات التي تهدف لضبط واقع ما؛ لا تحظى غالبا بقبول اجتماعي أول الأمر، كما هو الحال مع نظام ساهر المروري، مع أن هناك تغيرا ملحوظا في موقف الشارع منه، خاصة أن آثاره الإيجابية واضحة للغاية، وهنا يبدأ التحدي الفعلي لبرنامج قياس.

الأكاديميون والتربويون يمكن لهم بسهولة أن يقنعوا من يتحدث إليهم عن نظام قياس، لكن ماذا عن الجدوى التي يجب أن يشعر بها الطالب؟.

في التجارب العالمية آنفة الذكر تقع نقطة مهمة تشكل ربما أبرز أوجه الفرق بين "قياس" وبيننا، في كثير من دول العالم يستخدم القياس لا لمعرفة مستوى تحصيل الطالب فقط، بل لتوجيهه الوجهة التعليمية الأمثل والأنسب، بعد أن يتم اختبار الطالب أو الطالبة، وبعد أن تظهر نتائجه يتم اقتراح عدة تخصصات دراسية يتم اختيارها انطلاقا من واقع درجات الطالب ومستواه التحصيلي، هنا يشعر الطلاب وأولياء الأمور والمجتمع كله بالفائدة المباشرة والواضحة، التي يمكن معايشتها واقعا، هذا الإجراء لو اعتمده المركز الوطني للقياس والتقويم مع خريجي وخريجات الثانوية العامة، وربط ذلك بواقع واحتياجات سوق العمل، هنا سوف يشعر كل طالب وطالبة بأن "قياس" بات بوصلته الأمثل والدليل الذي يعينه على التخصص الأنسب، والمساعد الذي لا يتركه في دوامة البحث عن تخصص أو كلية.

حتى يتم هذا ويتحقق واقعا، سوف يظل الطلاب والطالبات يتحدثون عن "قياس" وهم لا يرون فيه إلا الرسوم التي يتم دفعها، يقول لي أحد أولياء الأمور بعد الحلقة: أنا مستعد لأدفع أضعاف هذا المبلغ لو كان "قياس" سيساعد ابني أو ابنتي على اختيار التخصص الأنسب والكلية الأنسب وسيوجههم إليها بناء على قدراتهم.