تطور المجتمع ونموه منذ عصر "التأسيس" للمملكة إلى هذه اللحظة التاريخية يجعل الوعي العام أكثر مراقبة ونضجا في تلمس قضايا "الخطأ ـ الصواب" في الممارسات الحكومية وقطاعاتها؛ لأن المجتمع انتقل من حالة "الأمية" التي بذلت الدولة فيها جهودا عظيمة في سبيل القضاء عليها حتى نزلت النسبة من 60% في 40 عاما، إلى أن أصبحت 4%، وهذا يعني أن المجتمع أصبح مجتمعا متعلما وواعيا ويملك عقلية نقدية قادرة على التقويم والتقييم وذلك من خلال ما تحصل عليه من علم وتجارب وخبرات، وهذا يؤدي إلى نتيجة طبيعية وهي: تسنم المجتمع لتقويم الأداء الخاص والعام فيما يتعلق بشؤون الدولة وكافة قطاعاتها الخدمية والمهنية.

المجالس السعودية تعج الآن بحديث كبير حول قضايا التعثرات والفساد ونقد أداء القطاعات، تختلف مستوياتها فتجد فيها الأسلوب الناضج في النقد والذي يتكلم بقواعد العلم والمعرفة في تلمس المشكلات وطرح الحلول لها، وتجد فيها من يعتمد على الثقافة "الاستهلاكية" التي تقوم على "قيل وقال" دون التدليل على صحة المعلومة أو كيفية حل المشكلة بل يعتمدون على السماع العام الذي يدار في المنتديات العامة والمجالس واللقاءات العائلية وغيرها، وهذا يجعل ترشيد حالة "النقد" العام أمرا صعبا لا يراعي طبيعة الاجتماع البشري الذي يحركه "العقل الجمعي" وهو في الغالب يفتقد إلى الحس النقدي والاعتماد على الطرح الدوغمائي الذي يحب الضرب على الجانب الشعوري أكثر من الجانب العقلي والعلمي.

إن المهم في موضوع تطور العقلية الاجتماعية إيجاد الطرق السليمة التي من خلالها يستطيع المجتمع برمته أن يستفيد من تطور هذا الوعي، وتشجيع المستطيعين في المساهمة الإعلامية والصحفية التي تجعل تلك الرؤى الكثيرة تصل إلى المسؤول فتترجم إلى برامج بنائية، أو تترك بعض السلوكيات الروتينية أو تزال الأخطاء التي يرصدها المجتمع بوعيه المتطور، فالشريعة الإسلامية تتشوف دائما إلى دور "الأمة" في الحفاظ على الكيان العام، وشبهها بالسفينة الكبيرة التي يتداعى الجميع إلى حفظها من الأيدي العابثة التي إن تركت أهلكت وهلكت.

في "الإنترنت" وفي مواقع "التواصل الاجتماعي" خاصة نجد سيلا عظيما من "الهاشتاقات" التي تتحدث عن أخطاء الدوائر الحكومية، والمتابع لها يجد فيها مقترحات جميلة، ونقدا رصينا لممارسات الجهات الحكومية، ولكن الغالب عليها – للأسف - "التسييس" الذي يستغل الأخطاء في ممارسات هذه الجهات للتهييج العاطفي الذي ينقل الوعي من حركته الواعية والحريصة على الإصلاح إلى "النقمة" والتشنج والخروج عن سياق الأدب إلى سقوط أخلاقي وخاصة في التعرض إلى الذوات بالباطل، فتدخل فيه "معرفات" تحاول توجيه الوعي وتأليبه أكثر من الحرص على توصيف "المشكلة" بوعي، وطرح الحلول بوعي كذلك، فتضيع الحقائق في وسط ضجيج أهل التشنج والناقمين، فتكون عملية "النقد" وسيلة لتفريغ الشحنات النفسية، أو تصفية الخصومات الخاصة أكثر من تلمس الحق وإصلاح العوج.

إن الصوت "العالي" المرتفع والصاخب هو الحاضر في أغلب هذه المنتديات، والصوت المعتدل غائب في أغلب الأحوال، والكثير من العقلاء ينصرفون عن هذه المناقشات، لأنهم يريدون حفظ كرامتهم من سيل الاتهام والتخوين بمجرد أن ينصف في القول أو يصحح صنيع جهة حكومية أو يحاول التخفيف من حدة الخطاب، ذلك أن الكثير من الشباب يظنون أن الحق مرتبط بالصوت المرتفع وبالصراخ والعويل وشدة العبارة والجرأة، هكذا تسرب إلى وعي الكثير، وعليه فإن الواقع يحتاج لا محالة إلى الصوت الهادئ والعاقل وأن يتحمل في سبيل تصحيح مناهج الإصلاح ما يناله في فضاء النت وغيره، والتجربة تدل على أن أكثر الناس معارضة لهذه الأصوات سوف يتبنون هذه الطريقة الهادئة حين يجدون مصابرة أهل الاعتدال التي هي السبيل إلى بناء حركة اجتماعية مساهمة في مستقبل أفضل، غير متعالية على الواقع، منطلقة من محددات الهوية وحفظ الكيان والولاء للوطن، بعيدة عن مطامح أهل السياسة الذين يستغلون كل حدث وخطأ لتأليب الأتباع وتجييش الوعي.

وعلى المسؤول أن يتابع كل ما يكتب، فإن ميدان عمله هو واقع الناس وحياتهم، وسماع آرائهم حتى ولو كان فيها تجاوز وشدة أمر ضروري، فإنه سوف يجد آراء مختلفة، ورؤى متباينة، يستطيع أن يصحح تصرف أو يستفيد من اقتراح من خلال هذه المتابعة، فإن ما يطرح في النت هو "التغذية الراجعة" التي يستفيد منها في تصحيح أدائه وتقوية صلته بمجتمعه، فالمكابرة والتعالي عن صوت الناس لا يخدم وطنا ولا يطور أداء ولا يصلح فاسدا، وقد رأينا بعض الوزراء والمسؤولين قد دخلوا في هذه المنتديات وسجلوا معرفات رسمية بأسمائهم، فتحية لهم من القلب، لأنهم بهذا التصرف يقدمون دليلا على أنهم يعيشون روح العصر ويدركون تطوره وتغيراته.