العقلية المتحجرة والتي لا تقبل الإصلاح في الحقيقة تتكرر، ولا تفرق بين مذهب أو دين وآخر، وإذا كان الحديد والفولاذ يقبل الانصهار تحت درجات حرارة عالية فإن بعض تلك العقول قد تقبل ذلك؛ لأنها منعت نفسها من الاقتراب من المناطق الحارة أصلا!.

هذا يحدث عندما يكون التصحيح والمراجعة ممقوتة، ويصبح الباحث عن الحقيقة تحت طائلة النقد اللاذع أنه حاول التصحيح والمراجعة! ولذلك قد لا نألو جهدا في تفسير كون البحث الحر والمتجرد غير موجود أصلا في الكثير من الدوائر الأكاديمية والعلمية لدينا، ولو وُجد وتوصل أحدهم إلى نتيجة غير المتعارف عليه فإنه لن يكون الشخص المرحب به!.

يأتي هذا مع الترف الباذخ في البحث في مسائل هامشية لا قيمة لها، ويُعاد الكلام المقتول بحثا وفي صياغات مملة. وأرجو ألا يُسقط هذا الكلام على أشخاص أو تيار معين، ولا أريد من إثارة هذا الموضوع إلا الإشارة إلى إشكالية في تفكير البعض حسب وجهة نظري.

أعود إلى موضوع التصحيح، وأقول هل يمكن لمن يعطي أشخاصا قضوا إلى رحمة الله منذ مئات السنين القداسة؟ ثم يحاول البحث والتعسف في كل جديد ليجد له نتفة أو بضع كلمات لعالم مضى ليقول لنا إن حكم الله هو كذا؟

ربما يثير البعض موضوع القداسة وأنه لا يوجد شيء من هذا؟ وأقول إن من يضفي لأحد أن أقواله هي الشرع والحق فهذا نوع من القداسة! وهذا يتعارض مع أصل الإسلام وهو أن العصمة لا تكون إلا لله ورسوله عليه الصلاة والسلام مهما كان أولئك على درجة من الصلاح وعلوّ المنزلة.

إذا تأملنا أسلوب إيران واستغلالها للمذهب الشيعي، وكيف أن الأتباع لا يحق لهم التفكير ولا الرأي!، فالناس تبع للآيات والمشايخ حتى الآراء السياسية يتم تلقينهم بها! وكأنهم بهم لا عقل لهم ولا سمع ولا بصر! وهكذا يتم تطويع الدين لأجل المصالح الشخصية. وكل من يدعو للتصحيح يتهم بأنه يساعد الأعداء أو خائن أو غير ذلك من الأوصاف التي يحاولون بها صرف أنظار الناس البسطاء والمساكين.

وهذا التصرف غير مقتصر عليهم، فهو عمل يتكرر في العديد من القصص، فكذلك أتباع الديانات الأخرى، فالمسيحية تعاني من أشد أنواع العسف الفكري لأتباعها كي يؤمنوا بها ـ خاصة الكاثوليكية والأرثوذكسية ـ! إذ إن أساس الإيمان بها هو عزل العقل عن الإيمان تماما.

نأتي إلى مجتمعاتنا؛ حيث نجد المشهد يتكرر أيضا لدى البعض، وإن كان على مستوى الأفكار والآراء الأقل شأنا، فنجد أن الكثير يعطي نفسه أو التيار الذي ينتمي إليه القداسة وأن أفكاره هي التي تمثل الإسلام! وهذه نتيجة طبيعية لخلط الإسلام كدين بالممارسات والأفكار الشخصية. وما أكثر الآراء الاجتهادية أو تلك التي يوجد فيها خلاف مشهور منذ القدم ويُبرز البعض آراءه وكأنها الإسلام! ولا أدري هل هذه غِيرة على الإسلام أم على أنانية آرائه الشخصية؟ وقد سبق وأن كتبت موضوعا بعنوان "الفصل بين الزعامة الدينية والسياسية" وهو يُبرز الآثار السلبية في محاولة البعض مزج الإسلام في توجهاته وآرائه أو آراء المدرسة التي ينتمي إليها. ومن طبع الإنسان أنه ضنين وشحيح ويحب التفرد والتملك، ولذلك يقول تعالى: (قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا).

في ممارسات بعض تيارات الإسلام السياسي نجد أنهم يشركون بين الإسلام والسياسة (أعني تلك الآراء السياسية الخاضعة للتغيير حسب المصلحة)، ونجد مثلا تداول البعض لحديث فلان أو علان ممن يُحسَب أنه شيخ أو عالم في موضوع سياسي بحت، وتختلف فيه الآراء، والمشكلة في ذلك محاولة إبراز ذلك وكأن رأي الشيخ أصبح قطعيا ويمثل الإسلام! بالرغم من أن السياسة تتناقض مع هذا النهج، إذ هي خاضعة للتغير والتبدل حسب المصلحة والظروف.

أعود وأقول‘ لا بد لأي بناء مجتمعي من تصحيح ذاتي وإلا سينهار أو ستُنقض الأسوار على من هو بداخلها! والبعض يظن أن حماية الكيان الخاص به لا يكون إلا بزجر الناس عن البحث الجاد والمتجرد! وأخذوا يختلقون المسميات والمصطلحات التي تنفر الناس عن هذا الأمر الإيجابي! وبقدر ما يشير هذا إلى ضعف البنية والأساس لديهم إلا أنه يشير بوضوح إلى نوع من الأنانية والمحاولة للحفاظ على المصالح الشخصية ربما! وإلا فأين قول الله تعالى: (فاحكم بين الناس بما أراك الله)، ولم يقل بما يريك فلان وعلان مهما كانت منزلتهم. ولا يمكن تصور البحث العلمي ومعرفة الحقائق إلا من خلال البحث الحر المتجرد دون أي ضغوط أو محاولات لحرف مسار البحث، ولا يعني هذا تبرير الخروج عن قواعد البحث العلمي الصحيح.

ومن هنا جاءت النهضة الغربية في إيجاد طريق للتصحيح التلقائي حتى للسياسة، وهذه الخلفية الأساسية والحقيقية وراء فكرة تداول السلطة والبرلمانات (التصحيح والمحاسبة والمراجعة).

ونحن إذ نمر في مرحلة حرجة جدا، وهي مرحلة تتصارع فيها الأفكار والتيارات بعنف، وأعتقد أن النتيجة إما التصحيح والشجاعة في مواجهة الأفكار المتشددة والتي تجرنا إلى الجحيم بعنف أو انتقاض الأسوار والأسقف علينا جميعا!.