حين نتأمل المواقف السياسية العربية لبعض الدول والسياسيين العرب في وقتنا الراهن، وطريقة تعاملهم مع المتغيرات السياسية الجديدة، لحالات بعض الدول العربية التي طالها هدير التغيير أو تلك التي ما زالت جماهيرها تنادي مطالبة بالتغيير السياسي والاجتماعي وتحسين أنظمتها، سنكتشف أننا أمام مشهد سياسي متخبط، لا يعكس في الواقع سوى مراهقة سياسية مغامرة بامتياز، تصنعها تحركات ارتجالية مزاجية نزقة لم يحالفها التوفيق المأمول، لمواجهة التحديات الجديدة بفكر سياسي ناضج، يُعبر عن امتلاك أدوات التمكن السياسي الواعية بأبعاد التغيير المنتظر. إذ قدمت القوى السياسية العربية نفسها في أسوأ الأشكال السياسية البرغماتية الصرفة، على حساب طموحات الجماهير العريضة التي تمكنت من إنجاز مهمتها في قلب واقعها السياسي القديم بنجاح، فيما أثبتت نخبها السياسية قلة حيلتها، في طريقة تعاملها العاطفي العميق مع المتغير السياسي على طاولة التفاوض والمبادرات، متناقضة بفجاجة مع الوقائع المُنجزة على الأرض.
وكان لاعتمادها أساليب العرف (القبلي) والاجتهادات الفردية لا الفكر السياسي المتمتع بوعي لغة العصر الحديث في تحركاتها، أن افتقدت الثقة الكاملة في نفسها وقدراتها على الحوار والإقناع والمحاكاة، وهو ما أعتقد أنه انتكاسة حقيقية لواقع فكر السياسة العربية وخيبة لآمال جماهيره. وكلفها خلطها بين المفهوم السياسي والمفهوم الديني، صنع أزمة أخرى تُضاف إلى أزمة الفكر السياسي العربي الضعيف أصلا، ومُعقدة في الوقت ذاته خطوط اللوحة السياسية المتشابكة في المشهد العربي.
لقد فشلت السياسية العربية في الانتصار على أبسط المعوقات التي تواجهها، كما فشلت في إثبات قدراتها الفكرية السياسية القيادية، نتيجة وقوعها أيضا في معضلة اختلال فهم المشاريع الفكرية السياسية والاجتماعية الحديثة، التي مثلتها مدارس الفكر (الليبرالي والاشتراكي)، وفشلها بالتالي في إيجاد الصيغ التوافقية لمشروع عربي بديل كفيل بنجاح مقاصدها وغاياتها، ومرد ذلك يعود إلى (ثقافة الذهنية المركزية) المسيطرة على الوعي العربي تاريخيا، وهي العقبة التي لم تنجح العقلية العربية في التخلص منها على مدى العقود والقرون الماضية؛ لأنها لم تستوعب على ما يبدو بشكل جيد نموذج الفكر السياسي الحديث، الذي ظهر في أوروبا أوائل القرن التاسع عشر، وتبنته مجتمعاتها لتكوين شكل الدولة ونظامها السياسي الجديد، وناضلت بشدة لوضع النهج الإصلاحي السياسي والاجتماعي كحجر زاوية رئيسي يتصدر أولوياتها. لكن النخب السياسية العربية لم تصل كما يقول المشهد لنقاط متصالحة مع ذهنيتها المركزية التي تربت عليها. وهي النخب التي سقطت مُنذ البدء في فخ صراع ممجوج لجدلية المقارنات والمفاضلات، بين التوجهات القومية العربية والإسلامية، ونظام المجتمع المدني، والمجتمع الديني،.. وغيرها من الجدليات التصادمية المتناقضة.
وفي نظري تكمن أخطر المخاوف الحالية للمواطن العربي _ وأنا واحد منهم - في مغبة انزلاق النخب السياسية العربية الجديدة إلى عصبية موروثها الفكري السياسي، الذي استمر عقب تمزق وسقوط الدولة العثمانية. وعدم مقدرة تلك النخب على تجاوز هذا المأزق الأيديولوجي التاريخي في الوقت الراهن. وانتهاء حلم رسم المستقبل السياسي العربي الجديد برمته، الذي من المُفترض أن يحمل على عاتقه حماية المصالح والمكتسبات الجديدة للمواطن والمجتمع العربي، وفق آليات واعية وقوية تضمن عدم العودة لشكل الدولة القُطرية وأنظمتها البائدة. لكن الوعي السياسي العربي لم يتقدم كثيرا على ما يبدو فيما يخص هذا الجانب، وظل إلى الآن يُهمل المفهوم المتعلق بالهُوية الفكرية والثقافية الخاصة بكيان وضمير المجتمع العربي وإنسانه! وهو ما تُشير إليه تحركات النخب السياسية التي تميل إلى التردد والفوضى منها إلى الحسم والإصلاح، وبات الشارع العربي متوجسا من تبعات ذلك بقسوة ولا يزال. وهو ما أوضحته الثورات الجديدة في تونس، ومصر، وليبيا، واليمن، كاشفة حال بنية الفكر السياسي العربي المتردية وضحالته، وأسلوب مبادراته العقيم في طرح الحلول التوافقية، وطغيان النزعة الارتجالية على غالبية خطابه وبنود بياناته. وأكدت الثورة السورية الدائرة رحاها حالياً مدى ضعف اللغة السياسية وفكرها، وحجم اعتلال منطقها في رؤية الحالة السورية السياسية، ولتؤكد أيضا صدق مخاوف المواطن العربي المطحون.
فلا غرابة إذن أن يتهافت الخطاب الفكري السياسي العربي بهذا الشكل المحزن. ولا غرابة أيضا أن يستمر الفكر السياسي العربي، في تأخره وأزمته وغيابه عن ملامسة هموم الجماهير العربية العريضة.